الفصل الثالث: بوصلة الحكمة والسير في دروب الفتوحات الناعمة

أولاً: فتح الله كولن: حكيم الفكر الإسلامي المعاصر

يمتلك الإسلام قوة ذاتية، لكونه الدين العالمي الخالد، مكَّنته هذه القوة من التمدّد والانتشار حتى في أحلك الظروف، فلم يشهد تاريخ الأديان والثقافات أن تقوم أمّة غالبة باتّباع دين وثقافة الأمّة المغلوبة إلا في تاريخ هذا الإسلام العظيم، كما وقع للمغول الذين غزوا بلاد المسلمين وهزموهم عسكريًّا، لكن الإسلام تَمكَّن من قلوبهم، فعادوا مسلمين.

هذه القوة الذاتية نابعة من طبيعة هذا الدين العظيم الذي يلبّي حاجات الإنسان المادية ويستوعب أشواقه الروحية، وتنفتح له أبواب العقول والقلوب للولوج إلى مملكته بسلاسة ويسر، بل بعشق وهيام.

ووهب الله هذا الدين عددًا من المنح الربانية، ومنها منحة التجديد الدوري التي يتولاّها رجال ربّانيون، اعتصموا بحبل الله المتين، وارتفعوا بإيمانهم في سماوات المجد ومجرات الفاعلية، حتى صاروا نُجُمًا تُطاول الشمس، وقناديل تبدد ظلمات الحيرة وحوالك الليالي السود.

1-نجمان في وطن واحد

تركيا بلد إسلامي لعب دورًا محوريًّا في تاريخ العالم عامّة وتاريخ المسلمين خاصة.. هذا البلد تَعرَّضَ منذ نهاية القرن التاسع عشر لرياح الخماسين وأعاصير السموم، وإذا كان العرب قد قالوا "إنّ بيت الأسد لا يخلو من العظام!"، فإن الوطن التركي رغم العقود العجاف التي عاشها، إلا أن أرضه شهدت خلال هذا العصر ولادة نجْمَين من نجوم الفكر الإسلامي الوسطي العظيم، فساهما في إنارة الكثير من الدروب الحالكة، وهداية جمٍّ غفير من الحيارى والتائهين.

الأول: وُلد عام 1293هـ/ 1873م في قرية نورس في شرق تركيا، وهو سعيد النورسي الذي أصبح أعجوبة زمانه، حتى تَظَافَرَ الناسُ على تلقيبه بـ"بديع الزمان" ليطغى هذا اللقب على اسمه الحقيقي.

وكانت حركة هذا النجم النورسي عظيمة على كل الصعد، وإنجازاته لا يكاد يأتي عليها الحصر، لكن أجلّ الخدمات التي قدّمها لأمّته كانت "رسائل النور"[1] التي مثلت قراءة عصرية للقرآن الكريم، حيث تعامل مع القرآن كأنه يتنزّل في هذا العصر، مما أدّى إلى إشاعة النور في كل زوايا تركيا، وليساعدها ذلك في الخروج من النفق المظلم وجُحْر التقليد الحضاري المقيت.

الآخر: فتح الله كولن الذي وُلد في 11نوفمبر 1938م في شمال شرق هضبة الأناضول التركية، ليصبح الوارث الروحي للنورسي وحكيم الفكر الإسلامي المعاصر.

2-الطريق إلى الحكمة

كان فتْح الله صاحب همّة كبيرة، فقد حفظ القرآن الكريم وتعلّم اللغة العربية واللغة الفارسية على يد والده رامِز أفَنْدي منذ وقت مبكّر، وبدأت صلته الروحية بهذا الدين قبل وصوله إلى مرحلة البلوغ، إذ ما تعلَّم العربية إلا لأنّها لغة القرآن الكريم ووعاء التراث الإسلامي، وما تعلم الفارسية إلا لأنّها واحدة من أهمّ أوعية العلوم الإسلامية طيلة قرون من العطاء المعرفي المبارك.

وكعادة المميّزين من الجهابذة والنوابغ، فإنّ فتح الله اتصل بعلماء منطقته لينهل من جداولهم ويساعدوه على إيجاد البنيّة المعرفية المتكاملة في ذاته التائقة إلى العطاء والخدمة والتجديد، فأخذ عنهم علوم الفقه والتفسير والحديث والأصول والنحو والبلاغة، وكذا مقارنة الأديان.

وتبدو الذاتية بادية للعيان في تكوين هذا المفكر الحكيم، فقد درس "رسائل النور" للإمام النورسي، ورغم إعجابه الشديد بها، إلا أنه لم يحاول أن يكون نسخة أخرى من أستاذه، ولم ينغلق على أفكاره، بل انفتح على كل تيّارات التجديد والإصلاح في العالم الإسلامي، قارئًا لها، وآخذًا منها كل ما يرى أنه مفيد لبناء مشروع النهوض الجديد في ظل الظروف التركية الخاصة والمتغيرات العالمية المتسارعة.

ولم يكتف بأن يَعُبَّ من كل التيارات الإسلامية، بل انفتح على الثقافة الغربية بعقله المنهجي والقابض باقتدار على غرْبال الحكمة، حيث اقتبس كل ما بدا له مفيدًا، وفقًا لمعرفته الواسعة بمقاصد الإسلام وحقائق الواقع، فكان فقيهًا وحكيمًا حتى وهو ينْهَلُ ويَعُبّ، لأنه جمع بين فقه الواجب وفقه الواقع.

لم يتحَوْصَل فتح الله ولم يتقوقع، بل انفتح وغربل.. اقتبس و"فَلْتَرَ".. رفض وقَبل، ولا شك أنه كان ممن أحسنوا تمثُّل قوله تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)(الزُّمَر:18)، ومن المؤكد أنه جسَّد باقتدار المقولة الذهبية للمصطفى محمد -صلى الله عليه وسلم-: «الحكمة ضالّة المؤمن أنّى وجدها فهو أحقّ الناس بها»(رواه الترمذي وابن ماجه).

3-الحكيم الربّاني

في عام 1960 م ترجَّل بديع الزمان النورسي عن فرسه الدنيوية ليلتحق بالرّفيق الأعلى -عز وجل-.. ومثل كثير من الدعوات التي كان روّادها أصحاب شخصيات "كاريزمية" آسرة، فقد بدا بأن التيار النورسي انكفأ على ذاته، منشغلاً بشخصية المؤسِّس وأفكاره أكثر من انشغاله بمنهج هذا المصلح وأهدافه، مما أظهر للعيان مساحات فارغة في جُدُر هذه الدعوة العظيمة، لاعتقاد مجاميع من هذا التيار أن الوفاء للشيخ يقتضي مثل هذا الأمر.

في هذه الأثناء كان فتح الله قد دَلَفَ إلى العقد الثالث من عمره، حيث عمل إمامًا لأحد المساجد في مدينة أَدِرْنَة، متأمّلاً في آيات الأنفس والآفاق، سابحًا في أجواء من الزهد والتسامي، ومنشغلاً برياضة النفس وترويضها، مع استغراق عميق وواسع في القراءة الموسوعية التي لا تستثني أيّ حقل من حقول المعرفة النافعة.

وبعد عامَين ونصف من الإمامة في أحد مساجد أَدِرْنَة، انتقل إلى مدينة إِزْمِير في الغرب التركي، وهي من أهمّ معاقل العلْمانية والتغريب في البلد، وعمل فيها مدرّسًا في مدرسة لتحفيظ القرآن، ثم عمل واعظًا متجوّلاً، فبدأت شمسُه بـ"الشروق" من "غرب" تركيا، لكنه صار شمسًا متحرّكة سَبَحَت في كل أنحاء هذا القطر المترامي الأطراف.

ويبدو أن إقامة فتح الله في هذه المدينة، وتنقّله بين القرى والمدن، أشعره بفقدان المجتمع التركي لبديع الزمان النورسي، فنهض بقوة ليقوم بالواجب، ولكن من خلال عقله الذي تعبَّده الله به، مع استيعاب كافة المتغيّرات التي كانت تتسارع في هذا البلد، العظيم بأهله، العبقري بجغرافيته، العريق بتاريخه وتراثه.

4-حكمة كولن في الموازنة بين العقل والروح

نتيجة الجَزْر الحضاري والتخلّف الثقافي اللذين كانت تركيا -كبلْدان المسلمين الأخرى- ترزح تحت وطأتهما، حدث شرخ في ذات الأمة بين العقل والروح، مما أوجد انفصامًا بين عالم الغيب وعالم الشهادة، وأظهر تناقضًا بين الأفكار والمشاعر، حتى بدا الإسلام في شعور كثير من المسلمين وسلوكياتهم كأنه دين "لاهوتيٌّ" لا علاقة له بعمارة الحياة.

نجح كولن في إعادة الروح إلى العقل الإسلامي، وتمكّن من روْحَنَة العقل وعقْلَنَة الروح، بحيث أعاد طاقتَيهما إلى دائرة "التكامل" بعد أن انزلق بها التخلف إلى دائرة "التآكل"، فكانت الثمرة غثائيةً مرّغتْ وجه الأمّة في أوحال الهزائم والمذلّات.

ولأن مشاريعنا هي انعكاس لشخصياتنا، فأول ما ظهر هذا الدمج في شخصية كولن نفسه، فقد امتلك عددًا من "الموازين"[2] الدقيقة بين مكوني الفاعلية الفردية والاجتماعية، حيث جمع بين "استنارة" المفكر و"حرارة" الداعية، وجمع بين "بصر" العقل و"بصيرة" القلب.

وبهذه المساوقة الدقيقة، امتلك هذا الرجل "فكر الإرادة" و"فعل الإدارة"، فكان في كليهما سديدًا ورشيدًا، وكلّما ضيّق المسافة بين العقل والقلب ازداد "ولوجًا" إلى عالم الإنسان، حيث حقوق الناس، ليزداد "عروجًا" في سماوات الله، لأن الله يوجد حيث البطون الجائعة والأكباد الظامئة والأجسام العليلة والأبدان العارية!

إنه مفكر عملاق وداعية عظيم، في إهاب شخص واحد متوسط الحجم، لكنه بهذا الدمج الدقيق أشاع أجواءً من المشاعر الروحية، وصنع مساحات من الأفكار، وهو في كل الأحوال لا يمل من استثارة الأفكار واستجاشة العواطف، في سياق استفزاز الأمّة للحركة والنهوض، والدفع بها من أجل العودة إلى متْن الزمن الأبيض.

إن شفافية روحه جعلته بكّاءً، حتى لقَّبه بعضُ محبيه بـ"النّاي" لكثرة معزوفاته البكائية، لكنه ليس البكاء على الأطلال، بل البكاء الذي يُحيل الانفعال إلى فاعلية، بفضل "الأفكار" الرشيدة التي وهبها من بصره وبصيرته ما صيّرها "أفعالا" سديدة، وصلت به إلى سدرة المنتهى من مجَرَّة الفاعلية.

5-كولن في سدرة الفاعلية

منذ السبعينيات تألّق كُولَن كنجم في عموم تركيا، لكنه يشرق ولا يحرق، ينير ولا يُقير، يضيء ولا يسيء، يوحّد ولا يبدّد، يجمع ولا يقطع.

وفي عام 2008م أجرت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية الشهيرة في الأوساط الأكاديمية، بالتعاون مع مجلة "بروسبيكت" البريطانية المعروفة، استطلاعًا على مستوى العالم حول أهمّ مائة عالم في الأرض، وكانت المفاجأة أن يحتلّ كولن المركز الأول!

المفاجأة أن يأتي هذا الاصطفاء الصارخ تحت راية مجلّتين غربيتين مع ما عُرف عن الإعلام الغربي من تحامل على الإسلام ورموزه وقضاياه، أما الرجل فقد ظل طيلة ثلاثة عقود وهو في حركة لا تعرف الراحة، وفي دأب لا يعرف النّصَب، حيث ألْقى آلاف المحاضرات في شتّى صنوف المعرفة، وعقد آلاف اللقاءات وحلقات الدرس العامة والخاصة، داخل المساجد وفي المنتديات العامة، وألْقى آلاف الخطب والمواعظ في مدن وقرى تركيا شرقًا وغربًا.

وألّف -مع ذلك- عشرات الكتب (65 كتابًا) في فنون وموضوعات شتى، لكنها تدور مع الإسلام حيث دار ولا تخرج عن فلكه الوسطي المعتدل والذي كان منهجًا للرشد والراشدين في الزمن الذهبي الجميل.

6-تيار الخدمة العريض

لم يبقَ كولن مفكّرًا فرديًّا كحال أكثر المفكّرين، ولم يكتف بأن يكون داعية محاطًا بعدد من المعجبين والمنفعلين، بل صار بعبقريته وتوفيق الله له تيارًا عظيمًا داخل تركيا وخارجها، عُرف بأنه تيّار "الخدمة"، وصار هذا التيار الخارج من تحت عباءة كُولَن، ملء السمع والبصر، إذ يملك في تركيا مئات المدارس وعشرات جامعات، ومئات المدن الجامعية، وعشرات المستوصفات والمستشفيات الطبية، وعشرات الجمعيات والمنتديات المتنوعة الأغراض.

وفي مجال الإعلام والثقافة، يمتلك تيار الخدمة عشرات المؤسسات، ومنها ثلاثون دار نشر تصدر سنويًّا مائة كتاب جديد في المتوسط، وخمس عشرة مجلة ثقافية، وتسع قنوات تلفزيونية، مع وجود أقسام للترجمة في دور النشر، أنجزت مئات الكتب المترجمة إلى عشرات اللغات في العالم، إضافة إلى عشرات المواقع الإلكترونية بعدد من اللغات.

فهل ندرك بعد ذلك: لماذا حوكم مرّات عدة؟ ولماذا هاجر إلى أمريكا منذ أكثر من عشر سنوات؟ وهل أدركنا سبب اختياره من قبل مجلتين غربيتين كأكبر مفكّر في العالم؟!

ومما يزيد في معرفة عظمة هذا الرجل أن ندرك أن تيّار الخدمة الآن يعمل لنقل تجربته داخل تركيا إلى كثير من بلدان المسلمين، وخاصة البلدان التي تنتمي إلى القومية التركية في وسط آسيا، وقد بدأ الأمر بالتعليم، حيث تتبع هذا التيار ألفا مدرسة في العالم منثورة في مائة وستّين بلدًا.

7-عَوْلمةُ الخدمة وأنْسَنَةُ العولمة

إن دوائر التميُّز في فكر كُولَن ومدارات التفوُّق في فعله لا تكتفي بهذا القدر من التفوّق والتألّق، والكبار لا يكُفُّون عن التعملق.

وفي هذا الزمان الذي تعَوْلَم، ونادى بعض مفكريه بـ"صِدام الحضارات" كالمفكر الأمريكي صموئيل هنْتجتُون، وبشَّر آخرون بـ"نهاية التاريخ" كالأمريكي الآخر فرانسيس فوكو ياما، مما دفع أصحاب التعصّب الديني والعرْقي إلى دقّ طبول الحرب الدينية والصدام الحضاري، في هذه الأثناء رفع كولن صوته مدويًّا في الآفاق، يصدح بالحب ويصدع بالدعوة للتسامح والسلام والأخوّة الإنسانية، بادئًا بالدعوة إلى الحوار الباحث عن المشتركات الدينية والإنسانية، والذي يراعي الاختلافات ويرعاها وينطلق منها إلى آفاق التعاون في كل ما يُحقق خيرًا للبشرية.

وكعادته لم يكتف بمجرّد الدعوة أو الكتابة، بل عزز ذلك بالعمل، حيث أوجد مع العاملين معه عددًا من المؤسسات المنحازة إلى الحوار، لتنفتح له مقراتها وقلوب أبنائها، وتُسخَّر له إمكاناتها.

وبعد أن رعى عددًا من الحوارات بين مختلف التكوينات داخل تركيا، وأشاع ثقافة اللقاء والحوار، وأصَّل لفكر التسامح والرحمة، مَدَّ جسور اللقاء مع أكبر الأمم في الأرض وهي الأمّة المسيحية، ووصل الأمر إلى أعلى المستويات، حيث زار عاصمة المسيحيين في العالم "الفاتيكان" وقابل البابا، محاورًا إيّاه في عدد من القضايا التي تهم العالمين الإسلامي والمسيحي.

لا شك أن ما وصل إليه فتح الله كُولَن، يُشعر كل مسلم بالفخر والاعتزاز، وفي ذات الوقت فإنه يقدم له نموذجًا عمليًّا في النهوض الذي بدأ بالتقييم الصحيح لواقع الأمة وعِللها ومعضلاتها، مع التركيز في الابتداء على بناء الإنسان، ثم صناعة الحياة من خلاله، وهي تجربة ثريّة تحتاج إلى الكثير من الدراسة.

ثانيًا: كُولن: "فتحُ الله" للفكر الإسلامي المعاصر

اقتضت مشيئة الله التي أودعها في سننه الكونية والاجتماعية، أن تكون الأيام دولاً بين الناس، وفق اقترابهم أو ابتعادهم، عن سنن القوة أو الضعف، التوحد أو التفرق، التقدم أو التخلف: (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ)(آلِ عِمْرَان:140)، لكن هذه المداولة تحتاج إلى جهد البشر وتغييرهم: (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(الرَّعْد:11).

هذه المداولة وهذا التغيير، يؤدّيان إلى تحقيق سنّة أخرى هي المدافعة: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ)(البَقَرَة:251).

ولهذا وصلت أمة المسلمين إلى الذروة الحضارية والكمال البشري في القرن الرابع الهجري، لكن موجات الترف المادي والثقافي أوقفت مسيرة الصعود فترة من الزمن، ثم بدأ العد التنازلي البطيء، مع وجود استثناءات في بعض الظروف، لكن أيًّا منها لم يستطع إعادة المسيرة نحو الصعود السابق.

ومع مطلع القرن العشرين الميلادي (الثالث عشر الهجري) كانت أمّة المسلمين قد سقطت إلى قعر التخلّف الحضاري، ووصل الأمر إلى سقوط آخر صورة من صور الأمة السياسية وأشكالها السيادية وهي الخلافة العثمانية التي لفظت آخر أنفاسها عام1924م بعد مرض عضال أصابها بالكساح ثم بالشلل التام، حتى أنها اشتهرت بلقَب "الرجل المريض" طيلة عدد من العقود، إلى أن أصيبت بـ"السكتة القلبية"!.

1-السقوط المدوي والزلزال المدمر

طيلة عقود من تاريخ الدولة العثمانية الأخيرة، كانت العلل قد تسلّلت إلى روح الدولة أولاً، ثم إلى جسْمها، لكن مبناها ظل مهيبًا إلى حدٍّ ما، وعندما قطعت الكمالية آخرَ عروقها سقطت هذه الدولة سقوطًا مدويًا، وأدّى سقوطها إلى ما يشبه الزلزال الذي أحدث الكثير من صور التدمير والفوضى في العالم الإسلامي ولاسيما في تركيا، لأنها مركز الزلزال.

ومن نتائج هذا الزلزال وصول حزب الاتّحاد والترقّي إلى مركز القيادة في تركيا، حيث أعلنها علمانية أسوأ من علمانية الغرب نفسه، إذ طبّقت تركيا النمط الأشدّ تطرّفًا من العلمانية، وهو النمط الذي يفصل الدين عن الحياة، وليس عن الدولة فحسب كما حدث في الغرب، لدرجة أن القوانين أوجبت منع أي طالبة تضع الحجاب على رأسها من الدراسة في المدارس والجامعات الرسمية، وفصل أي ضابط من الجيش أو الأمن إذا ثبت أن زوجته ترتدي هذا الحجاب.

ورافق هذه التداعيات سقوط تركيا في أوحال التخلّف، دون أن يَسْلم أي مجال من مجالات الحياة، حتى صارت تركيا قزمًا في السياسة الدولية، رغم مكانتها الكبيرة تأريخيًّا، ومساحتها العريضة جغرافيًّا، وموقعها "الجيو-استراتيجي" الخطير، وامتلاكها لإمكانات كبيرة، وإرث عريق.

2-موت وحياة

في تلك الأثناء كان أحد عمالقة الفكر الإسلامي في تركيا يجاهد بكلّ ما أوتي من قوّة دون جدوى لإيقاف تداعيات الزلزال، وإنقاذ ما يمكن إنقاذه، وهو بديع الزمان النُّورْسي (1873- 1960)، إذ رغْم علمه الغزير الذي جعل الناس يطلقون عليه لقب "بديع الزمان" و"سعيد المشهور" وهو ما زال شابًّا يافعًا، إلا أنه لم ينجح في إيقاف زحف الظلام، لكنه نجح في إبقاء جذوة الإيمان متّقدة في قلوب مئات الآلاف من الأتراك، وكانت تركيا أحوج ما تكون إلى من يملك القدرة الخارقة التي تنجح في تحويل القلوب المستنيرة إلى قناديل تضيء للأتراك طرقهم، حيث دخلوا في مرحلة تيه حضاري، بعد أن فقدوا خصائصهم من أجل أن تقبل بهم أوربا، لكنها لم تقبل، وبهذا استمروا لعقود بدون هوية، إذ لم يصبحوا أوربيين، ولم يستطيعوا العودة إلى جلدهم.

وفي نوفمبر 1938م شهدت تركيا ولادة طفل سمّاه أبوه محمّد فتح الله كولن، وهو الذي ستثبت أحداث المستقبل أنه سيلعب الدور الكبير في إعادة تركيا إلى ربيعها، ووضع قطارها في غير الاتّجاه الحضاري الذي وضعه فيه عشاق التغريب.

هذا الطفل أصبح اليوم ملء بصر تركيا وسمْعها، وانتقلت ريحُه الطيّبة في السنوات الأخيرة إلى كثير من أصقاع العالم، كأحد اللواقح الحضارية في العالم وكأحد المجدّدين الكبار للفكر الإسلامي المعاصر على مستوى العالم الإسلامي، أما في تركيا فهو المجدد الأكبر في هذا العصر؛ لأنه جمع بين الحكمة والخدمة.

3-"الحكمة" هي الطريق إلى "الخدمة"

لا شكّ أن المؤثرين في مجرى الحياة هم من الأذكياء جدًّا، الذكاء الذي يقترب من العبقرية، وفتح الله كولن كان له من هذا الذكاء نصيب وافر.

لقد كان جوهرة نادرة، لكن ولادته في أسرة امتلكت قدرًا كبيرًا من التديّن الإيجابي، صقل هذه الجوهرة وزادها تألّقًا ولمعانا؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم-: «فأبَوَاه يُهوِّدانه أو يُنصِّرانه أو يُمجِّسانه»[3]!

ورغم الدور الكبير الذي لعبته الأسرة في تزكية هذا الطفل العملاق، إلا أن شخصيته الذاتية لعبت دورًا أكبر في التزكّي والعروج نحو كمالات الشخصية الفاعلة؛ فقد انخرط في التعليم الديني التقليدي، ولم تسمح له الأوضاع بالالتحاق بالتعليم النظامي، لكنه نجح في بناء جامعة ذاتية لنفسه، جامعة كان أساتذتها هم عمالقة الأمّة في كل الأزمان، حيث قرأ الحديث والسيرة والتاريخ والفلسفة وعلم الكلام والفقه وأصوله، ودرس العربية حتى أتقنها، وكان من مدرّسيه في هذه الجامعة عمالقة الأمة: أبو حامد الغزالي، وابن تيمية، والشاطبي، وأئمّة المذاهب الأربعة، وجلال الدين الرومي؛ ومن المعاصرين: النورسي، وحسن البنّا، وسيّد قطب، وأبو الأعلى المودودي، ومحمد الغزالي، وأبو الحسن الندوي، وغيرهم.

وفي كل الأحوال كان يأخذ ويردّ، يتفق ويختلف، فقد مارس القراءة النقدية بأفضل مستوياتها، ويبدو من كتبه أن أقرب العلماء إليه كانا عالمين تُركيين، الأول قديم وهو: جلال الدين الرومي، والآخر حديث وهو: بديع الزمان النورسي. فهو شديد الوَلَه بهما والثناء عليهما، كثير الاستشهاد بأقوالهما.

وعندما تعَلّم العربية والفارسية إنما أراد أن يتعلم بها العلوم النافعة، فالقرآن لا يمكن الخوض في بحاره بدون قوارب العربية، وكذلك كثير من علوم الإسلام، إضافة إلى السنة النبوية. أما الفارسية فهي ربما كانت أوسع أوعية العلوم الإسلامية بعد اللغة العربية، إذ أُُلّفت بها الكثير من الكنوز المعرفية، ولذلك هي محلّ اهتمام وسط النخب المتديّنة في إيران وتركيا وشبه القارة الهندية.

ولأن الرجل شديد النهم للعلم، شديد الانفتاح على الآخر ومعرفة ما عنده، وخاصة بعد أن وصل إلى ذروة القراءة النقدية، فقد قرأ المؤلفات المترجمة من اللغات الغربية، ومن خلالها انفتح على الثقافة الغربية وعلوم العصر الحديث، حيث قرأ فلاسفة الغرب ومفكريه، واطّلع على علومه الطبيعية.

هذا الذكاء المتّقد، وهذه الأسرة المتديّنة، وهذه البيئة التركية بخصائصها المتفوّقة وظروفها المميّزة، كلها تضافرت على صناعة سفينة شخصيته التي أوصلته إلى شاطئ الوسطية وبَرِّ التوازن، ولاسيما فيما يرتبط بالعلاقة بين العقل والقلب، فقد امتلك "إرادة الفكر" و"إدارة الفعل" عبر قلب شديد اليقظة والحساسية، لتثبت الأيام أن الرجل قد دلف إلى بيت الحكمة، وهي الهبة الربّانية الأغلى والمشروطة بالمراقبة العقلية والمجاهدة القلبية، حتى صار بالفعل حكيم الفكر الإسلامي المعاصر: (يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا)(البَقَرَة:269).

هذه الحكمة هي التي مكَّنته من الحضور في الزمان والمكان المناسبين، حاملاً الأوّلويات والآليات المناسبة، حيث أسََّس تيّارًا عريضًا في تركيا، فرض "معناه" أن يكون "عنوانه": "تيّار الخدمة"، ليصير كولن عبر هذا التيّار "فتح الله" وهبته للفكر الإسلامي في تركيا، وهو الآن بصدد الانتقال إلى شتّى أصقاع العالم الإسلامي، ولكن.. أليس من المبالغة أن نعتبره "فتح الله" للفكر الإسلامي في هذا العصر؟

هذا ما سنحاول معرفته باختصار في المجالات التربوية والاجتماعية والثقافية والإعلامية، ولكن بعد أن نؤكّد أن فتوحات الإسلام لم تكن عسكرية، حتى في المناطق التي دخلتها جيوش المسلمين، فإن الشعوب اعتنقت الإسلام نتيجة القوة الناعمة التي امتلكها، عندما أحسن المسلمون تمثل قيم هذا الدين، فقدموه بأحسن الطرق كحلّ لمشاكل الناس النفسية والروحية والاقتصادية والاجتماعية، إذ رأى فيه الناس خلاصهم من مشاكل المعاش والمعاد (الدنيا والآخرة).

هذه القوة الناعمة هي أصل أصيل في هذا الدين، فقد فُتحت عاصمة الخلافة الراشدة "المدينة المنورة" بالقرآن كما قالت أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها، وأصبحت كثير من الشعوب في شرق آسيا وجنوب شرقها وشرق قارة أفريقيا مسلمة بسبب هذه القوّة الناعمة الخارجة من حسن تفهم القرآن وتنزيله وتطبيقه في الحياة العملية، ولذلك قال الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم- آمرًا: (وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا)(الفُرْقَان:52) هذا القرآن الذي فتح العقول والقلوب في إندونيسيا وماليزيا والصومال وتنزانيا وكينيا -على سبيل المثال- على أيدي العلماء والتجّار الذين وفدوا من بلاد المسلمين، إلى تلك البلدان، ولاسيما من حضرموت، إذ لعبت مدينة تريم دورًا كبيرًا في هذا المضمار، ولذلك صارت عام 2010 م عاصمة الثقافة الإسلامية، حيث كانت كتائب القوّة الناعمة تخرج منها بعد أن تنوّرت بالقرآن وتشبّعت بفقه الحكمة اليمانية، ولذلك نجحت في ترك بصماتها وسط تلك الشعوب العظيمة إلى يومنا هذا.

4-الفتح التربوي

ظل همّ كولن الأكبر كيف يفهم المسلمون القرآن، وكيف ينزلونه على الواقع. ومن متطلبات تنزيله الصحيح على الواقع حسن قراءة هذا الواقع، بدراسة عوامل الضعف وأسباب الغثائية، ثم البحث لها عن الأدوية المناسبة من صيدلية القرآن الكريم، حيث الدواء الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه!.

ومن القراءة المتأنّية للواقع التركي خلال القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر، لاحظ كُولَن ضعف التعليم الإسلامي مقابل حضور التعليم الغربي الذي حقن أجيال المسلمين بجراثيم (القابلية للاستعمار)، إذ أدرك أنّ المدارس الفرنسية وحْدها وصلت في الدولة العثمانية إلى نحو ألفي مدرسة في القرن التاسع عشر.

في ذات الوقت الذي كان فيه يُشَرِّح ويحلل، كان يمارس الوعظ المؤثر على تلاميذه، واصِلاً بهم إلى قمّة الانفعال والشعور بالأسى الشديد لواقع الأمّة، وعندما تساءل تلاميذه: ما العمل؟ رأى أن الوقت مناسب للبدء بالمشروع التربويّ المضاد للمشروع التغريبي الذي أوهن فاعلية تركيا، ولذلك كان جوابه بناء أول مدرسة لإيجاد "الإنسان الجديد"، الإنسان الخالي من مفردات الوهن وعوامل الغثائية التي تضافرت على صناعة "القابلية للاستعمار" فيه.

لقد جمع كولن مائة وخمسين من التجّار المتأثّرين به واتّفق معهم على بناء أوّل مدرسة نموذجية، معتبرًا إياها "معركة بدْريّة"، ولكنها عين "بدر" التي تسيل بماء القوّة الناعمة، أو بدر التي ستوجِد الحصان الذي يقود العربة الحضارية، بدلاً من التعليم التقليدي الذي نجح بامتياز في وضع العربة قبل الحصان!!.

هذا الأمر بدأ في السبعينيات، ويبدو أن كولن بدأ منذ عام1973م بتكوين معاهد تتولّى تحضير الطلاب لدخول الجامعات، والتي اكتسبت مع مدارس التيّار سُمعة مميزة، سرعان ما تصاعدت مع حرص القائمين عليها على الجودة، بحيث ارتقت بجودة التعليم التركي النظامي بصورة غير مباشرة، نتيجة عوامل المدافعة، وتحوّل الاهتمام بالتعليم إلى ثقافة في أوساط أكثر الأسر التركية خلال العقود الثلاثة الأخيرة.

5-محمد الفاتح

مضت الأيام ليزداد الاهتمام بجودة التعليم، حيث أنشأ التيار عام 1982م (مدارس الفاتح) نسبة إلى القائد العثماني الشهير محمد الفاتح الذي نجح في فتح القسطنطينية (عاصمة الدولة البيزنطية)، ولتصبح عاصمة الخلافة الإسلامية العثمانية، وليتغير اسمها إلى "إسلام بول"، حتى يوازي تغيير الاسم تغيير المسمّى.

وكأن محمد الفاتح في هذه الحالة هو محمد فتح الله، غير أن فتوحاته غير عسكرية وغير خشنة، إذ حرص على إيجاد "الإنسان الجديد" في هذه المدارس، بحيث يصير المتخرج منها رقمًا صحيحًا، وذلك من خلال توفير عناصر العملية التربوية الناجحة، وأهمها:

1-النظرية التربوية التي تستوعب حقيقة الفكرة الإسلامية بدون شعارات ومسميات إسلامية، مع ترجمتها إلى مناهج وبرامج وأنشطة تتضافر للقيام بدور فعال في تزكية الطالب في سبيلي التخلية (التطهير) والتحلية (النموّ).

2-التمويل المالي الذي يوفر متطلبات العملية التربوية الناجحة، من مناهج ووسائل وملاعب ومعامل ومناشط، وقد تداعى كثير من رجال الأعمال لإيجاد شركات وقفية تقوم بهذه المهمات، حتى نجح التيار في إيجاد أعداد من المدارس النموذجية، امتلك بعضُها إمكانات ضخمة تضاهي مدارس أوربا وأمريكا واليابان، وامتلك التيار مطابع ضخمة تكفلت بطباعة مناهج مدارس التيار، بل ودخلت عالم الاستثمار حيث طبعت خلال بضع سنوات خمسة مليون كتاب لصالح وزارة التربية والتعليم التركية.

3-العنصر البشري (المدرس والإدارة) وهو حجر الزاوية في العملية التربوية، وبداية التفوق لهذا التيار في العمل التربوي، حيث اختير أكثر الطلاب ذكاء وإخلاصًا للدخول إلى كليات التربية، مما لفت الأنظار إلى تميز هذا الكادر، ومع مرور السنوات وتراكم الخبرات ظهر نظام الزُّمر وسط هؤلاء المعلمين لتكامل المعارف وتلاقح الأفكار وتبادل الخبرات.

وبهذا المثلّث التربوي حققت مدارس تيار الخدمة نجاحات كبيرة، واحتل خرّيجوها مراكز مرموقة، ونجح طلابها في تحقيق إنجازات كبرى في الكثير من المسابقات والمنتديات الدولية، مما أدّى إلى تحوّل الشعب التركي بأغلبيته إلى حاضنة ومشجع لهذه المدارس، وصارت محل ترحيب في سائر دول العالم.

وظل الهرم التعليمي لهذا التيار يتعاظم حتى وصل إلى الجامعات، ووضع تيار الخدمة لنفسه "استراتيجية" تهدف إلى إيجاد خمسين جامعة، تحقّق منها حتى الآن خمس عشرة جامعة على رأسها جامعة "الفاتح" في إسطنبول التي صارت واحدة من أهم الجامعات التركية في سمعتها ومخرجاتها.

هذا التفوّق والتألّق لمنظومة التعليم، منحها جاذبية لا تقاوم، تجاوزت هذه الجاذبية الشعب التركي إلى كثير من دول العالم، إذ يوجد فيها طلاب ينتمون إلى ثمانين بلدًا في العالم.

هذه الجهود الجبّارة ترمي إلى إحياء الصحابة من جديد، بمعنى إيجاد الإنسان الجديد الذي يحسن قراءة آيات القرآن وآيات الزمان، والجمع بينهما في صياغة ورثة الأرض الصالحين لعمارتها حتى تعود شمس الحضارة إلى سماء المسلمين! أليس هذا فتحًا مبينًا لهذا الدين ولفكره الإسلامي في هذا العصر؟!

6-الفتح الاجتماعي

أسّس فتح الله تيارًا سماه "تيار الخدمة"، فهل طابق حضورُه الاجتماعي هذا الاسم؟

أعتقد أن أكبر خدمة يقدّمها هذا التيار للمجتمع التركي ومجتمعات المسلمين الأخرى هي التربية الراقية، ومع ذلك فإنّ التيار يُقدِّمُ بالفعل خدمات اجتماعية راقية وعريضة، ومنها رعاية الفقراء والمساكين وأصحاب الاحتياجات الخاصة عبر العشرات من الجمعيات الخيرية داخل تركيا وخارجها.

ومن ذلك توزيع الأضاحي وكسوة العيد على المحتاجين، وبناء وإدارة عدد غير قليل من المستشفيات والمصحات النموذجية، وعلى رأسها مستشفى "سَمَا" في إسطنبول، وإيجاد مئات المدن الجامعية لتسكين الطلاب، وتعليم المتفوّقين من أبناء الفقراء تعليمًا راقيًا ومجّانيًّا، وإن استدعى الأمر الابتعاث إلى أرقى الجامعات في العالم.

ويولي تيار الخدمة اهتمامًا بالغًا برجال الأعمال، حيث يقيم لهم عشرات الجمعيات الخاصة بهم، ويستخدم خبرته العالمية لخدمتهم في تسويق بضائعهم في الدول التي يتواجد فيها أبناء هذا التيار، وأعتقد أن تيار الخدمة لعب ويلعب دورًا كبيرًا في رفع مستوى التبادل التجاري بين تركيا والعالم الإسلامي.

وقد نجح تيار الخدمة في المبتدأ باستقبال وإيواء ثلاثين ألف أسرة جاءت من وسط آسيا بعد سقوط الاتّحاد السوفييتي، حيث قاد كولن بنفسه حملة عريضة لإنجاد ما سماهم بـ"إخوة الدمّ والدين"، لأنهم ينتمون إلى أصول تركية وإلى الإسلام، ثم انتقلت بعدها مدارس التيار وجمعياته إلى الجمهوريات الإسلامية الستّ في وسط آسيا، ليصبح لها الحضور العريض والمكلَّل بالمجد والفخار في أوساط الأتراك وأبناء تلك الشعوب.

7-ساموراي تركيا

من المعروف أن "الساموراي" جملة باللغة اليابانية، وتعني: "الذي يضع نفسه في الخدمة" وتضمّ الفرسان والشرفاء والمقاتلين الأشداء، وقد اشتهروا بالشرف حتى أن انتهاكه كان مدعاة للانتحار الجماعي، واشتهروا أيضًا بالفروسية حتى أصبحوا في بعض الفترات أشهر مقاتلي العالم، ويبدو أن تيّار الخدمة في تركيا هم الـ"ساموراي" هناك، مع فارق أن خدمتهم ومرابطتهم تتّجه نحو الجهاد السلمي، من خلال الجهاد بالقرآن لأسلمة الشعب التركي في سائر شُعَب الإيمان وشتّى ميادين الحياة، عبر تعليمهم وتقديم الخدمة الراقية لهم.

وكأن أفراد هذا التيار قد انطلقوا من الحديث الشريف: «الناس عيال الله، وأحبُّهم إليه أنفعُهم لعياله أو لخلقه» أو كما قال -صلى الله عليه وسلم-، وكذلك من المثل القائل: «سَيِّدُ القوم خادمُهم»، ولانشغال مؤسّس التيار بهذه الخدمة فقد فاته قطار الزواج، ولم يبنِ له بيتًا حتى أنه عندما اقتيد مرة للتحقيق معه في إحدى الإدارات التابعة للحكومة التركية، طلبوا منه عنوانه، فالتفت إلى تلاميذه يسألهم عن عنوانه، إذ لم يكن له عنوان، لعدم امتلاكه منْزلاً، ولعدم وجود أسرة له، ولتنقّله الدائم في أنحاء القطر التركي.

ولأن الله يوجد حيث يوجد الفقراء والمرضى والمساكين والمحتاجون، فقد وجد فتح الله وتلاميذه الله هناك، فكأنه تعالى قد رضي عنهم، ولا نُزَكي على الله أحدًا، لكن كل هذا التوفيق والتفوُّق في إدارة شؤون الخدمة تشيران إلى رضى الله عنهم، ولاسيما ما يرتبط بالمكانة الاجتماعية المرموقة التي احتلّوها وسط المجتمع التركي رغم الواقع الشديد التغرُّب، والشديد الحساسية من كل ما له صلة بالإسلام وماضي تركيا العثماني!.

تقول حقائق الواقع إن الخدمة أورثت هؤلاء رضا الله، حيث بارك عملهم وألهمهم رشدهم، وأعلى ذكرهم، كأن الخدمة سُلَّم صعب الصعود، من وصل إلى قمته، وصل إلى قلوب الناس فَسَيَّدوه عليهم، وإن لم يمسك بأي منصب!!.

8-الفتح الثقافي والإعلامي

رغم أن عُمْر تيار الخدمة في تركيا لم يتجاوز أربعة عقود منذ بداية ظهوره، ورغم أن تركيا عاشت في خريف ثقافي وشتاء فكري بالنسبة للفكر الإسلامي، إلا أن إرادة هذا التيار وإخلاصه لقيا توفيقًا من الله الذي يستطيع أن يحيل الخريف إلى ربيع إذا أراد، ولأن مشيئة الله قضت بأن الله لا يُغَيِّر إلا إذا تغَيَّر البشر واستنفدوا طاقاتهم، كما قال تعالى: (إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ)(الرَّعْد:11)، وكما قال الشاعر التونسي الكبير أبو القاسم الشابي رحمه الله:

إذا الشعب يومًا أراد الحياة              فلا بد أن يستجيب القدَر

لهذا فقد بدأ وجْهُ تركيا بالتغيُّر، لأن عزائم الرجال فعلت الأعاجيب، وسنترك بعض الأرقام تتحدث في هذا السياق، فهي لا تحابي أحدًا.

يمتلك تيار الخدمة أكثر من ثلاثين دار نشر، تُصدر سنويا ما متوسطه مائة كتاب جديد، غير الكتب التراثية، وغير الكتب التي تعاد طباعتها. وتوجد أقسام للترجمة من وإلى اثنتين وأربعين لغة، تشمل أهمّ لغات العالم الكبرى وفي مقدمتها أهمّ لغات العالم الإسلامي، ومنها بالطبع اللغة العربية، حيث ترجمت الكثير من كتب أعلام الفكر الإسلامي العرب إلى التركية، وترجمت بعض الكتب التركية إلى اللغة العربية، ومنها بعض كتب فتح الله كولن نفسه، إذ تُرجم خمسة عشر كتابًا من ضمن كتبه الخمسة والستين إلى العربية، والتي تُرجمت إلى ما يزيد عن أربعين لغة.

ويمتلك التيار أكثر من عشر مجلّات ثقافية وعددًا من الصحف حيث صارت إحداها الأكثر انتشارًا ومبيعًا في تركيا، ويمتلك مطابع ضخمة لطباعة أرقى الكتب بعدد من اللغات.

وفي المجال الإعلامي امتلك تيار الخدمة حتى الآن تسع قنوات فضائية متنوّعة ومتخصصة في المرأة والطفل والقضايا الثقافية والفكرية والاجتماعية، وامتلك عشرات البرامج الإذاعية ووكالة أنباء تدعى "جيهان" هي الأكبر في تركيا.

وامتلك أيضًا عشرات المجلات والمواقع الإلكترونية بعدد كبير من أهمّ لغات العالم، وقبل ذلك وبعده أقام التيار عشرات المؤتمرات الدولية ومئات الندوات والورش الثقافية والفكرية في تركيا وخارجها.

9-الجسر المعلّق بين تركيا والوطن العربي

كانت إحدى معالم التغريب والأتْرَكَة عند النخب العلمانية في تركيا الابتعاد عن العروبة والعرب شكلاً ومضمونًا، ولذلك أُلغيت الحروف العربية من اللغة التركية، فأفاق الأتراك وهم أُمِّيون، ونشطت عاصفة شعوبية ضد العروبة، حيث حوربت كل المظاهر ذات الصلة بالعربية والعرب، بما فيها الأذان وخطبة الجمعة، إذ أوجب النظام أن يكونا باللغة التركية التي أصبحت تُكتب بحروف لاتينية.

وبهذا قطع العلمانيّون صلة الأجيال الجديدة بتراث تركيا العلمي المكتوب بالعربية أو بالتركية ذات الحروف العربية. وفي ذات الوقت أدار النظام التركي ظهره للعرب حتى على المستوى السياسي، ويمَّمَ وجهه شطر أوربا التي رفضت انضمام تركيا إليها لأنها مسلمة كما قالت تَانْسُو تشيلّر ذاتها، وهي رئيسة الحكومة التركية الأسبق، ولأن الاتّحاد الأوربي تجمّع مسيحي كما صرّح بعض الساسة الأوربيين. وقد ردّ القوميون العرب بالمثل على تعصُّب الطورانية الأتاتوركية؛ مما أوجد هُوَّة واسعة بين أعظم قوميتين في العالم الإسلامي.

لكن الإسلاميين الأتراك خلال العقود الثلاثة الأخيرة عملوا بجدّ من أجل إعادة الاعتبار للعروبة والعرب، فهناك مئات الآلاف من الأتراك الذين صاروا يتكلّمون العربية، سواء من المنتمين إلى تيار الخدمة "كولن" أو إلى التيار النورسي (بديع الزمان سعيد النورسي) أو إلى الحركة الإسلامية المنظمة ذات البعد السياسي (نجم الدين أربكان ثم رجب طيب أردوغان). والآن نشهد ثمار هذا العمل الكبير من خلال النظام التركي الحاكم الذي وَثَّق علاقاته مع العرب، حتى أن رئيس الحكومة التركي رجَب طيّب أردوغان وقَّع اتفاقيات "استراتيجية" مع عدد من الدول العربية، وصرّح في قمة "سرت" العربية في ليبيا بأن مصير تركيا مرتبط بمصير العرب، وأن العالم لا معنى له بدون العرب.

وفي الطرف الآخر رفض ضرب العراق من الأراضي التركية رغم أن تركيا هي القوة الثانية في حلف شمال الأطلسي، وللولايات المتحدة قاعدة ضخمة في "أَضَنَة" التي تقع في جنوب تركيا، ولعب دورًا ضخمًا في دعم صمود الفلسطينيين ولاسيما في غزّة، وربط حبال الودّ بين رجال الأعمال العرب والأتراك، حتى صار حجم الاستثمارات وحجم السلع المتبادلة بين الطرفَين بعشرات المليارات من الدولارات.

ولكن: ما علاقة ذلك بتيار الخدمة؟ تيار الخدمة هو أحد المساهمين في خلق الأرضية المناسبة وسط الشعب التركي من أجل السماح بتحويل وجه تركيا نحو الوطن العربي.

وبالمناسبة فإن تيار الخدمة هو أوّل تيار تركي في هذا العصر قام بإصدار مجلّة تركية ناطقة باللغة العربية الفصحى وهي مجلة "حراء". هذه المجلة التي استكتبت كبار المفكّرين العرب ولعبت دورًا سيذكره التاريخ في صفحاته الذهبية وذلك في التقريب بين العرب وتركيا. فقد أقامت عددًا من المؤتمرات والندوات الدولية باللغة العربية في: تركيا ومصر والمغرب والأردن واليمن والسودان والجزائر وأماكن أخرى. ونظمت زيارات لمئات المفكّرين والأكاديميين ورجال الأعمال العرب إلى تركيا، والعكس صحيح.

والحقيقة أنني عندما أدركتُ حقيقة الدور الذي تقوم به مجلة "حراء" الصادرة في إسطنبول قلتُ في إحدى الندوات: إن إسطنبول لا تمتلك فقط جسرها المعلّق الذي يربط الشطر الآسيوي من المدينة بالشطر الأوربي، بل تمتلك أعجوبة أكبر وهي مجلة "حراء" التي ربطت بين إسطنبول -ومن خلفها تركيا- وبين الوطن العربي.

ولم تنجح في تحولها إلى جسر ممتد بين العرب والأتراك إلا بتميّزها وفاعليتها، حيث استمالت كبار المفكّرين العرب لأنها صارت جسرًا بين العقل والقلب، بين الفكر والأدب، وجمعت بين الإقناع والإمتاع، وهي بالجملة إحدى أرقى المجلات الإسلامية مبنى ومعنى، إن لم تثبت الأيام أنها أرقاها على الإطلاق.

ويرأس تحرير هذه المجلة العملاقة الأستاذ المفكّر نَوْزاد صَوَاش، وهو في نفس الوقت رئيس القسم العربي في الأكاديمية الدولية في إسطنبول، وقد قابلتُه بضع مرات واشتركتُ معه في عدد من المؤتمرات أو الندوات الدولية، فوجدته شديد الاعتزاز بالعربية والعرب، وهو يجيد العربية أفضل من معظم علماء العربية العرب الذين أعرفهم، حتى أنني في ندوة في عمان "الأردن" ذكرت أنني أشعر بالخجل لأننا معاشر العرب نتحدث لغة أقرب إلى "الفُصْعى" -بالعين- بينما يتكلم أخونا نوزاد التركي العربية الفصحى.

10-الوصول إلى الذروة

رغم أن تيار الخدمة يرفض ممارسة العمل السياسي، بل ويرفض التحزّب، ويقول إنه غير منظم، وإنما هو تيار من المتطوّعين للخدمة الذين يحبّون تركيا ويحبّون الإسلام والمسلمين، بل ويحبّون إخوة الإنسانية من كل الديانات، إلا أنهم صاروا أكبر وأقوى من أكثر التنظيمات، وهو ينتشر بسرعة وقوة في وسط آسيا بعد تركيا، ومنذ بضع سنوات الْتَفَت إلى الوطن العربي، وهو ينتشر بفاعلية، وفق "استراتيجية" واضحة للمُتابع النّابه.

ولهذا التيار حضور قويّ في أوربا وأمريكا وسط الجاليات التركية خاصة والإسلامية عامة، ولاسيما في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية التي يقيم فيها المفكر فتح الله كولن منذ أكثر من عشر سنوات كما أسلفنا.

وقد اتّضح هذا الحضور وتلك الفاعلية عام 2008م عندما قامت مجلة "فورين بوليسي" الأمريكية الشهيرة في الأوساط الأكاديمية باستبيان بالتعاون مع مجلة "بروسبيكت" البريطانية عن أعظم مائة عالم على مستوى الكرة الأرضية، وكانت المفاجأة أن يحتلّ فتح الله كولن المركز الأول على مستوى العالم كله. وقد أُقيمت عنه مؤتمرات وندوات دولية في عدد من عواصم العالم الهامة، إضافة إلى إنشاء كراسي باسمه في بعض الجامعات الغربية.

11-العالمية في مواجهة العولمة

مما يجدر ذكره أن عام 2008م ذاته شهد سقوط آخر دعوى كيدية ضدّ كولن في تركيا، إذ برّأته المحكمة من التّهم المنسوبة إليه، وكان قبل صدور الحكم وبعده قد حظي بشهادات وإشادات من ساسة ومفكّرين علمانيين كبار، من بينهم أكثر رؤساء الجمهورية والحكومة في تركيا خلال العقود الثلاثة.

وحظي في الغرب باهتمام شديد من عدد كبير من المفكّرين والمثقّفين والباحثين حتى عَدَّه أحدُهم "مارتن لوثر" الإسلام في هذا العصر.

هذا الاحتفاء لم يأت من فراغ، بل جاء لأن فتح الله شجرة باسقة أصلها ثابت وفرعها في السماء، تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ومن ذلك دعوته إلى الحب والتسامح والحوار بين البشر، وكان قد ترجم هذه الدعوة إلى مؤسسة كبيرة في تركيا للحوار بين سائر التيارات والمكونات الفاعلة، ثم أنشأت هذه المؤسسة فروعًا أو مؤسسات شبيهة لها في بعض البلدان الغربية، وهي تقوم اليوم بدور مشهود في الحوار بين المسلمين والغرب، حيث يقوم فتح الله بدور مقدر في إعلاء الدعوة إلى حوار الحضارت وتبادل المنافع والأفكار بالتي هي أحسن، إذ قدم "العالمية" في مقابل تيار "العولمة" الداعي إلى صدام الحضارات، والذي يمثله ساسة ومفكرون، مثل: صموئيل هنتجتون وفرانسيس فوكوياما في الولايات المتحدة الأمريكية، وتوَّج فتح الله هذا الدور بزيارته للفاتيكان ومحاورته للبابا.

وبعد هذه الجولة الخاطفة مع حكمة كولن هل أنت معي عزيزي القارئ في أنه "فتحٌ من الله" للفكر الإسلامي المعاصر في تركيا؟.. وهل ترى أن اسمه تطابق مع مسمّاه؟!.

ثالثًا: "القطمير".. والدفع بتركيا نحو المستقبل

المستقرئ لقصص النهوض وتجارب الوثوب الحضاري عامة، يلاحظ أن ما من تجربة ناجحة إلا وكان الفكر حاديها وكانت التربية حاضنتها. حدث هذا في حضارات المسلمين، وفي حضارات أوربا قديما، وفي العصر الحديث كانت عربة الحضارة الغربية قد قادها حصان التربية، وهذا ما حدث لتجارب النهوض في اليابان وكوريا الجنوبية وماليزيا.

وتشهد تركيا الآن بداية إقلاع حضاري، يرى الناس سنابله السياسية والاقتصادية ولا يركز كثير منهم على جذوره الفكرية والتربوية، التي تولى بذرها ورعايتها عدد من كبار المفكّرين والدعاة، يتقدمهم خلال العقود الأخيرة المفكر والداعية الكبير محمد فتح الله كولن، الذي اجتمعت له من الخصال والفِعال ما لم تجتمع إلا للنزر اليسير من المصلحين؛ فالفقه أبرز صفاته كمفكّر، والإخلاص أبرز خصائصه كداعية، والعملية أبرز خصائصه كمربّي.

وبسبب هذا التشابك المتكامل بين أدواره الثلاثة فقد حقّق نجاحًا منقطع النظير في الدمج الحكيم بين العقل والقلب، مما آتى أطيب الثمر، وحقق أفضل النتائج.

ومن خصاله المشهورة تواضعه الشديد، وإنكاره لذاته، وضغطه على نفسه، وتفانيه في دعوته، ولا بد أن هذا الإنكار الشديد لذاته هو السبب الأول الذي منح شخصيته الجاذبية الآسرة لتلاميذه، وجعل هؤلاء وغيرهم من القراء ينظرون بإجلال إلى هذه الشخصية، ولهذا أقدم صاحب هذا الكتاب على الكتابة عن هذا الرجل بتقدير بالغ، رغم استيائه الشديد للمدح والملق وتحذيره الأكيد من الشخصنة والاختزال.

1-تواضع السُّنبلة

من المعلوم أن السنابل المثقلة بالخير تهبط نزولاً، بينما تصعد الفارغة إلى أعلى، وهذا ديدن العلماء العاملين، الذين لا يزيدهم علمهم وأعمالهم إلا تواضعًا، لأن الثمرة الأولى للعلم أنه يعرِّفهم بضآلة ذواتهم، ولهذا قال تعالى (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)(فَاطِر:28)، ونقل عن الإمام سفيان الثوري قوله: "إنما العلم الخشية!".

وقد بدا للعيان أن كُولَن من هذا الصنف من العلماء، حيث بلغ إنكاره لذاته وتفانيه في دعوته، وتضحيته في سبيلها، حدّ أنه لم يكن له عنوان، بسبب أنه لم يمتلك بيتًا، ولم يتزوّج امرأة، ولم يحُزْ من حطام الدنيا شيئًا، بل ظلّ دائم الهمّ، دائب السفر للدعوة والتربية، حتى داهمتْه الأمراض، وأثقلته الأوجاع.

وصار كلما زاد تفانيًا وتضحية يزداد تواضعا حتى أنه أطلق على نفسه اسم "القطْمِير" وهو اسم كلْب أهل الكهف، فقد تذكّر كلبَه عندما كان طفلاً ودعا الله قائلاً: "اللهم كما كنتُ صديقًا لذلك الكلب لإخلاصه، فاغفر لهذا القطمير الواقف على بابك، والذي لم ينظر إلى باب غيرك.. اغفر له وارحمه"[4].

إن هذا الواقف بباب الله هو الذي تُفتح له اليوم أبواب تركيا حبًّا وتحنانًا، والذي يتذلّل أمام الله هو الذي يتذلّل إليه الملايين من التلاميذ والمحبّين والمعجَبين في تركيا وبلدان المسلمين، بل وسائر أقطار العالم، حتى أنه حصل على المركز الأول بين علماء العالم في استفتاء أجرته مجلة أمريكية عام 2008م، كما أسلفنا.

إن حب الملايين لهذا الداعية المفكر لم يزده إلا تواضعًا وحسّاسية، وأذكر أنا كنا في مؤتمر في عمَّان عام 2010 عن تجاربه الإصلاحية، فدخل علينا رئيس الوفد التركي، ليقول لنا إنه اتّصل للتوّّ بـ"فتح الله كولن" وأخبره عن احتشاد عشرات المفكّرين والباحثين لدراسة فكره، لكنه أبدى خجله، وطلب منه أن يركزوا على دراسة سيرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وأبدى تخوّفه من غيْرة الله.

2-النـزول إلى الميدان

هذا الرجل الذي زهد بالدنيا، وتضاءل أمام خالقه حتى شبَّه نفسه أمام باب الله بكلْب أصحاب الكهف (القطْمير)، قد عظَّمه الخالق أمام الناس حتى صار له كل هذا الدوي رغم صمته، وكل هذا الصيت رغم تضاؤله، لأنه أدرك أن كل ما يملكه هو هبات من الله يجب أن يوظّفها في مرضاته، فانطلق إلى خلقه خادمًا فسيَّدوه، أنكر ذاته فضخّموها، قزَّم قامته فعمْلقوها، أخفَّ وزْنه فأثقلوه، أحبّهم فعشِقوه.

لقد أجاد الدخول من أبواب متفرقة إلى أفئدتهم بعد أن نزل إليهم وأقام معهم، فهو لا يمارس دور الزعيم، بل يشاور ويحاور، ويجادل بالتي هي أحسن، ويتراجع عن أفكاره وآرائه لصالح الغالبية، وينهي عن ادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة، حيث يرى أن قصور الإنسان يحول دون رؤية الحقيقة كاملة،[5] ويرى أن احتكار الحقيقة تعبير عن عبادة الوسيلة وإشارة إلى غياب الهدف.[6]

ويُعظِّم العلم الذي يزيد الناس تواضعًا إذا أُخذ وفق المنهج النبوي، ويحث على الاستزادة من القراءة، ويؤكد على ضرورة التخلق بأخلاق الرسول العظيم، ولاسيما أخلاق المسامحة واللين والرحمة والحب، مع ممارسة أقصى درجات نقد الذات في مقابل البحث عن أعذار للآخرين.

لقد "نزل" إلى الناس فـ"ارتفع" ذكره، وهذه سنة الله في أن مَن يتواضع له يرفعه، وهذا كان ديدن السلف الصالح.

3-جامعة "فتح الله كولن"

لقد غذَّ كولن السير في طريق الفكر والتربية، مستخدمًا كل الوسائط والوسائل المشروعة، حتى صار جامعة فاقت كل الجامعات.

وبـ"التربية الإسلامية" أوجد جيلاً ذهبيًّا استفاد من كل المواد الدراسية في مدرسته الفكرية العملاقة، حيث تعلّم هؤلاء القراءة الحصيفة "للتاريخ" والاستثمار الأمثل لعبقرية "الجغرافيا" في تركيا، فعزفوا أنشودة "التربية الوطنية" وبَنَتْ عقولهم "الثقافة" المتسامحة.

درسوا في جامعة كولن "كيمياء" الامتزاج بالناس، وأتقنوا "هندسة" التعامل مع "الأحياء" و"جبْر" القلوب، بجمع الأرواح، وطرح الإحن، وضرب الأنانية، وقسمة المعروف والفضل بين جميع الخلق، وهذا كله عبر رصيد ضخم من "الأخلاق" التي لا تنفد و"اللغة" التي لا تعجز.

وقد نجحت هذه الجامعة إلى حد كبير في إيجاد أطبّاء العقل، وصيادلة القلب، ومهندسي الروح، وحكماء النفس، وخبراء التربية، وزُرَّاع الأفكار، وتجّار الخير، وفرسان الخدمة، وجنود الحق، وأدباء الأخلاق، ومحاميي الدفاع عن الآخرين وصنع الأعذار لهم، ومجاهدي السلوك الأقوم والسيرة الحسنة.

في هذه الجامعة علّمهم كيف يعزفون ترانيم الروح وتراتيل الفؤاد، وكيف يلبّون أشجان القلب، وكيف يصنعون الموازين التي تزن رؤيتهم للأفكار والأشياء والأشخاص في ضوء القرآن، وكيف يجيبون عن أسئلة العصر المحيرة، وكيف يقيمون صروح الأرواح في بيئات مادية معادية وأرض جرز، وكيف يمدّونها بأسباب الحياة حتى لا تجفّ ولا تيبس.

وأتقنوا في هذه الجامعة مهارة التعامل مع الزمن، حيث الاستفادة من الماضي دون الالتفات إليه، وعمارة الحاضر دون الغرق فيه، والتخطيط للمستقبل دون الركون إليه أو التوجّس منه.

4-مُعَلِّم العصر ومربّي "الجيل الذهبي"

شهدت تركيا منذ عقود جهودًا جبارة لكُولَن وأقرانه وأشباهه في سبيل بناء الفرد التركي الصحيح، واستنهاض الوطن التركي لإعادته إلى "المتن" بعد أن تدحرج إلى "الهامش"، وبواكير النجاح الفائق بادية للعيان.

لقد ربَّى تلاميذه على الدوران حول المقاصد، فلا استهداف إلا للمقاصد، ولا دوران إلا حول الكلّيات، ولا تمركز إلا حول الأصول، وكذا على التنافس للإبداع والتكامل في المتغيّرات، مع امتحان الوسائل وتجديد الأساليب وابتكار الآليات.

ربّاهم على الحركية والفكر واستكشاف خط السير قبل الخطو، والتخطيط لقادم الأيام، واستشراف المستقبل، والتحكم به وصولاً إلى صناعته.. ربّاهم على احترام التخصصات، وتقدير الخبرات، وتنمية المواهب، والاستفادة من التجارب، وعلى الهجرة من الفوضى إلى النظام، ومن التواكل إلى التوكّل، ومن الارتجال إلى التخطيط، ومن الخلط إلى المرحلية.

ومع مرور السنوات صارت دعوة كولن ملء السمع والبصر، وأثمرت ثمارًا يانعة، لأنها قامت على الإيمان في المنطلق، والشمول في الرؤية، والتوسط في الحركة، واليسر في الدعوة، ولأنها استهدفت التجديد، وتوسّلت بالتخطيط، وسارت في دروب المرحلية وسياسة النفس الطويل، ونأت بنفسها عن سُبل العجلة وإحراق المراحل وطيّ المسافات، ولم تقفز فوق الواقع، وحرصت على لجم العواطف، وضبط الانفعالات، وتجنّب مواطن الزلل وردود الأفعال، وابتعدت عن سياسية السير على الحرف حتى لا تنجرف إلى الهاوية!.

لقد ظلّ ديدنه وشغله الشاغل بناء "الإنسان الجديد" وإيجاد "الجيل الذهبي" بإكساب هذا الجيل "بوصلة" العقل وتمتين صروح الروح.

ومن يقرأ -مثلاً- ما كتبه حول صفات وارثي الأرض، سيجد أنه يركّز على إيجاد "الإنسان الكامل" ومن أجل ذلك استخرج من الوحي وَصْفَة "الإيمان الكامل" وملأ القلوب بـ"العشق الكامل" وبنى العقول بـ"التوجه الكامل" نحو العلم و"القراءة الكاملة" للكون والإنسان والحياة، وربّا تلاميذه على "الحرّية الكاملة" في التفكير، و"الائتلاف الكامل" مع مكونات مجتمعهم، و"الإتقان الكامل" للعلوم، ولاسيما الفكر الرياضي.

5-أستاذ العبور إلى المستقبل

ظل كولن يدرّب تلاميذه على المحاورة والمشاورة، ويحذّرهم من مسالك الاستبداد بالرأي واحتكار الحقيقة المطلقة، ويدفعهم نحو الالتفات إلى عالمهم الداخلي، بتركيز طاقة الإصلاح والنقد على الداخل، وبالقراءة الشاملة وتنظيم الأفكار، بشحن الهمّة وشحذ العزيمة وتقوية الإرادة، بتجديد النيّة وإشعال جذوة الفاعلية.

لقد علّمهم الانطلاق من الأفكار إلى الأفعال، ومن "الأيديولوجيا" إلى "التكنولوجيا"، ومن "الميتافيزيقيا" إلى "الفيزياء"، ومن القلوب إلى القوالب، ومن الآني إلى الآتي، والسير في كل ذلك بالتوسط بين التعجّل والإبطاء، ووضع الرؤية بين التهوين والتهويل، مع النظر بالأبصار والبصائر، والإقلاع عن دنيا الواقعية إلى ذرى المثالية دون تجاهل للفروق الفردية، ومع البحث للضعفاء والمتساقطين عن أعذار.

صار كولن بحقّ أستاذ العبور إلى المستقبل، حيث جعل من نفسه ومن تياره جسرًا لعبور تركيا إلى فضاء التقدم، بتجسير الكثير من القيم التي بدت في عقود التخلّف متباعدة إلى حد التناقض، فقد علّم تلاميذه كيف يبنون جسورًا بين العقل والقلب، بين العلم والعرفان، بين الطين والروح، بين الفكر والفعل، بين الوطن والدين، بين الجمعة والجماعة، بين الوحدانية والوحدة، بين السلفية والمستقبل أو بين الأصالة والمعاصرة، بين المثالية والواقعية، بين الحديث والحداثة.

إن الوقائع تثبت اليوم أن تيار الخدمة مع أقرانه من التيارات الإصلاحية يبنون تركيا بالتراحم والتلاحم، بالقوة واللين، بالموضوعية والإعذار، بالتكافل والتكامل، بالتعاون والتعاضد، بالتلاقح والتسامح، بالصفا والوفاء.. بتوزيع الشفقة والنفقة، بتعميم الأمل والعمل، بالترقية الفكرية والتزكية الروحية والتربية العملية، ببناء العالم الداخلي وتعميق العالم الروحي والاندماج في العالم الخارجي.

إن هذا التيار يدفع الأتراك إلى الفضائل ويدفعهم عن الرذائل، يحثّهم على الأخذ بالأسباب ومدافعة الأقدار بالأقدار، مع مداومة التوكل واستكمال متطلباته.

إنه يُعبِّد طرق الرقي أمام الأتراك؛ باقتلاع الأشواك واستزراع الأشواق، يفتح لهم أفضل المسالك ويدفعهم بعيدًا عن المهالك!.

فيا له من رجل، وهنيئًا لأبناء الخدمة بفتح الله كولن، وهنيئًا لتركيا بتيار الخدمة، وهنيئًا للمسلمين بتركيا.



[1]     عددها 153 رسالة وكلها مطبوعة بعدد من اللغات بما فيها اللغة العربية.

[2]     عنوان كتاب لكُولَن، "الموازين أو أضواء على الطريق".

[3]     البخاري، ص:381؛ مسلم، ص:1816.

[4]     أسئلة العصر المحيرة، فتح الله كولن، ص:175.

[5]     الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:131. 

[6]     الموازين أو أضواء على الطريق، فتح الله كولن، ص:29.

Pin It
  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.