الفصل الأول: الوعي بالتاريخ ودوره في إحداث النهضة

فهرس المقال

أهمية استيعاب الكُنْه التاريخي

إن استيعاب الكُنْه التاريخي (فهم إِوَالِيَةِ الحراك والفعل التاريخيين) عامل مهم في إنجاح عملية الإقلاع الحضاري، وإن معرفة الهوية الأصلية خطوة مهمة وأرضية لا بد منها لإرساء أسس ومقومات هوية الحاضر والمستقبل.

إن تأمين الصلات مع الماضي التاريخي منبع حيوي لاستمداد الطاقة الذاتية المفيدة في عملية استعادة وتعزيز مكانة الأمة حاضرًا ومستقبلاً.

إن الحرص على تصميم الهوية المستقبلية بذات الأسس والمقومات والمرافق التي كانت لها في الماضي، يتبرر بكون الهوية الأصل قد توفرت على عوامل صلبة، سامية، حازت بها الأمة على المجد من أطرافه. إن اطلاعنا على تألق الشأن الحضاري الحاصل في مسيرتنا الماضية، يجعل الهمة تنشط لبعث ذلك الشأن من جديد، وإرسائه ثانية على قواعد أصلب.

ومن الواضح أن المهمة التجددية -على الصعيد المعنوي- هي ليست فقط إعرابًا وجدانيًّا يتيح لنا شيئًا من السلوى والعوض النفسي، ولكنه -إلى ذلك- إنجاز تطبيقي وإخراج لما ينطوي في الذاكرة من صور العظمة؛ إذ إن ما تتعبأ به الذاكرة من تفاصيل عزة وشموخ يتحول إلى أحلام تلحُّ على التجسد في أرض الواقع.. هناك حُمَّى تَتَّقِدُ وراء صور الذاكرة تحدو الفئات المتنورة الواعية إلى أن تعيد السيطرة على نفسها، من خلال إعادة الصلة بمناطات أحلامها، إنها في الحقيقة حُمَّى تترجم إرادة إطلاق الطاقات الكامنة في الكيان والمعطَّلة بسبب فواعل التوقف الحضاري والاعتلال المدني، وجَعْل تلك الطاقات تسترسل بعنفوان ثانية في عملية الخلق. فالذاتية بذلك الانطلاق، تسترد طبيعتها المعطاء، وأريحيتها المبدعة؛ إذ تخرج من حال السكون والموات، إلى حال الحراك والانبعاث.

والتاريخ ليس حراكًا عشوائيًّا أو اندفاعات اعتباطية ترتسم بها وجهةٌ متفلتة من الزمام، متحللة من الذمام، كلا، إن التاريخ مِرَاسات خلق متضافرة، تمتد طولاً وعرضًا في الزمان والمكان، وتتنجّزُ برَوِيَّةٍ ووعي على صعيد الواقع، وتتسدد بمطامح وغايات ملموسة، وتتغذى بحماس وعنادات مرشَّدة، لذا كان الفعل التاريخي جهدًا مناطًا بفواعل تنفيذ لا تنثني، وبقِوًى تمضي به نحو مقاصد تستقطب الجهود القومية، وتتحدى العوائق التي تملأ الطريق، وترجّح طاقة الدفع على طاقة الارتدادات والكبح في أرض المعترك، وصولاً إلى الهدف.

فالعملية التاريخية لا تكون إلا حراكًا جماعيًّا، تضامنيًّا، استمراريًّا، بنَّاءً. وحين يتوقف ذلك الحراك تتوقف الأشواط، وتسود سكونية هي أخت الموت، ولا يسع الزمن عندئذ إلا أن يترقب ظهور الانبعاث والاستئناف على أيدي الأفذاذ كما هو حال الأمة اليوم.

وقد يطول الانتظار فيخيّم الوقت الميت، وقت العطلة والتدهور والارتكاس، فمن لا يتقدم هو في الواقع يتأخر. وفي تلك الاستنامة يظل حتى ما يظهر من أفكار العظماء النافذة نفسها، مجرد طاقة افتراضية، تنتظر المواسم الحيوية التي تجعلها تتحول إلى أحداث تصنع الحراكات، وترسم التحولات. ولذا كان الفعل التاريخي يتوقف على شروط تتضافر، وطرازية قيادية تبادر إلى إنهاض الراقدين.

لا ارتجالية في الحراك التاريخي البنَّاء؛ إذ التاريخية تحتاج إلى النضج الكافي لتجهيز الفواعل المحققة للتحول، "فيلزم أن نصبر ونحتمل سنين علْمُها عند الله.. لأننا نعي ونستشعر الحاجة إلى سنين قد تطول من الانتظار الحي.. ومن الحركة المؤثرة والمنظّمة في حضانة البيض، حتى يتعافى البدن المتضعضع، ويستجمع قوته ليقتدر على تصفية حسابه مع المصير"[9].

إن النهضات تحتاج إلى زاد من التعبئة السجالية التي ترافق المسيرة، وتواجه العوائق، وتتحدى العراقيل، لا مناص من إيجاد شروط ثقافية مؤصلة، صلبة، لها القدرة على المصاحبة والحداء، وتذليل العقبات؛ لأن الرهان التاريخي تواجهه -لاسيما في مراحله الدقيقة- اعتراضات القوى المضادة، ولا بد لمحاورة تلك القوى، ومداورتها، وإفحامها من حجج ألماسية وإثباتات برهانية وهمم وثابة. إنها مغامرة لا ينفك خط السير فيها عن مواجهة الصعاب والمثبطات، وهو ما قد يفتّ في العضد، ويبعث على الوهن، ما لم يَجْرِ التعزيز والتقوية، الأمر الذي يقتضي إدامة الشحذ والتأهيب والتأطير؛ إذ لا يعزز حسّ اليقين في روح الجموع والصفوف والفئات، إلا اقتناعها الثابت بأن فداحة المسار وجسامة المسلك والتضحيات هي وحدها الجسر المفضي إلى النصر.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.