الفصل الأول: الوعي بالتاريخ ودوره في إحداث النهضة

فهرس المقال

قراءة كولن للتاريخ قراءة علمية

يمكن لمتصفح كتابات الأستاذ كولن، لاسيما ما خصصه للتاريخ بوصفه محرك تطوير وعامل بناء، أن يقف فيها على ما يشبه القواعد والمبادئ التي رآها تحكم هذه الفاعلية الحراكية (الصيرورية)، وتشرط ديناميتها وتأثيراتها في عملية التدافع الاجتماعي والتمديني.

ويمكننا في هذا الصدد أن نسجّل بعض هذه القواعد والمبادئ مما أناط الأستاذ به نظريته في التاريخ.

فالحضارة كائن عضوي له كروموزومات وقوانين نمو وزوال مطردة: ويرى كولن أن هناك حتمية تنساق وفقها التطورات، فالحوادث التاريخية تجري في أنماط متشابهة ضمن إطار عام،[14] بحيث إن هناك حتمية بين السبب والنتيجة في التاريخ، "فالشر يلد شرًّا، والظلم ينقلب إلى مظالم تدور حول حلقة مفرغة ودائرة فاسدة"[15]. ومن شأن التراكمات غير المحسوسة أن تفضي إلى النتائج الانقلابية الجذرية، و"قد يكون دبيب تحرك صغير، بداية لكيان كبير بعد سنوات"[16].

إن التاريخ صيرورة مطردة تحكمها شروط، ولها فاعلية صنع الحضارات (وتقويضها كذلك)، وإن الحضارة تنمو وقد حملت صبغيات ونوييات أو منويات هي التي تسم الهوية وتصبغ الحضارة، وكل تهجين لتلك المورثات يتم على حساب أصالة وصميمية الهوية الحضارية.

وإذا أردنا تبسيط الفكرة-القانون، قلنا: هناك قانون فسيولوجي صيروري ينطبق على الحضارات كلها، ويحدد مآلاتها، فنماؤها أشبه بالكائنات الحية، تبدأ جرثومًا ناشئًا، ثم تَتَخَلَّقُ، ثم تولد، وتدرج على المسرح.. إلى أن تنتهي إلى وضع الخمول والانهيار، وقد يكتب لها التجدد بفعل طروء أسباب تُذْكي الجذوةَ فيها تارة أخرى، ولكن هذا التجدد مهما استغرق في الزمن، فإنه آيِلٌ إلى الارتكاس ما أن يحيد عن النهج السوي، سُنة الله في الكون، ولن تجد لسنته تبديلاً؛ ذلك لأن الله جعل الشأن التمدني شأنًا استخلافيًّا أو شبيهًا بذلك (مسؤولية إزاء الكون والعالمين)، وجعل عمر حيازة العهدة يمتد أو يقصر تبعًا لتمسك المستخلفين بالميثاق، ومدى التزامهم بالمبدأ. فإذا ما فرّطوا أو حادوا، انفرط الزمام منهم، وآلت القيادة إلى غيرهم، يجددونها وينهضون بها بنفس الاشتراطات التجندية القويمة، فإذا ما وهنوا أو استرخت الأواصر الروحية والأخلاقية لديهم، هانوا وتخطتهم الحظوة الإلهية إلى غيرهم، وخسروا شرف الائتمان، هكذا سنَّ اللهُ للريادة الأممية أن يتداولها الناس والأقوام بحقها من الإيمان والثبات على الحق والبذل والقسطاسية.

إن قوانين الحضارة ونواميس التاريخ تسري في الأجيال والشعوب، وتورِّثها خصائصها، فهي أشبه بالمنويات الحضارية، "إن البشر والحوادث السالفة في الماضي والتي صارت تاريخًا، هي اليوم شبيهة بالحيوانات المنوية المودعة في حضائن اللقاح أو بالبيوض في بيوت التفقيس... وتعد مصدرًا لإضفاء الصور على الحاضر، وإن الأسباب المنثورة اليوم -من جهة العلّيّة- كالبذور على سفوح التاريخ، هي عوامل تعيّن نتائج الغد"[17].

من هنا "لا يصح في روح الدين وقواعد الشريعة الفطرية إهمال الأسباب، ثم توقع حصول النتائج المتعلقة بالأسباب"[18]. ففي عالم الإنسان كما في عالم الطبيعة، ينهض الفرد والجماعات بما تنهض به دينامية التوارث والتلاقح والتوالد بين الأشياء.

إن الصيرورة التاريخية في نظره إذن، هي اطّراد حتمي؛ لأنها ناموس يقوم على معادلة تتناظر فيها الأسباب والنتائج. والخالق الذي أوجد الكون ووضع الكتاب والميزان، وقيّد الحركة والسكون في زمام محفوظ، قد أرسى الظواهر، وأجرى قانون حصول الوقائع على حكمة أزلية ومنطق أبدي هو منطق العلل، وإن من الدين الأخذ بالأسباب والسنن، «اعقلها وتوكّل»[19].

من هنا يلحّ كولن على قراءة التاريخ في ضوء قوانينه ومشروطياته؛ إذ بتلك القوانين والمشروطيات نفهم "أوليات" الأحداث، وندرك علِّية الاطراد أو الانقطاع الحاصلة في حبل الحوادث والوقائع. ولم تخطئْنا التوفيقاتُ والنجاحات إلا حين أضحينا لا نفقه سنن التاريخ، ولا ندرك حقيقة حراكه.[20]

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.