القسم الأول : فصول حول العلاقة بين الفكر والفعل

فهرس المقال

دور العالِم

علم موصول بالسماء

تعالج "الرؤية الكونية" ثلاث علاقات هي العلاقة "بالله، وبالإنسان، وبالكون"؛ فكلُّ عِلم، وكل عالِم، لم يربط معارفه، ورؤاه، وتصوُّراته، ومفاهيمه، ومناهجه... بالخالق وبالوحي؛ فإنَّه يتحوَّل إلى "تقنيٍّ" في العلم، صاحب تفاصيل وجزئيات، قد تكون نافعة آنيًّا، لكنها ستكون مضرَّة مهلكة ولو بعد حين. ولا يُستثنى من هذا الحكمِ العلومُ الطبيعية والرياضية والفزيائية، وغيرها مما لا يتعامل مع الإنسان مباشرة، إذ إنه في جميع الأحوال يعود بالنفع أو بالضر إلى الإنسان وحده.

ومن منطلق قوله تعالى لنبيه الكريم (اِقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ)(العَلَق:1)، نستنتج اليوم أنَّ المخاطَب بالقراءة هم المسلمون؛ ذلك أنَّهم صاروا -والأسفُ ملء الجوانح- أقلَّ الأمم اهتماما بالعلم، وبالقراءة، وأضعف الشعوب صلة بالفكر، وبالعقل؛ أمَّا أمرُ الله تعالى أن تكون القراءة (بِاسْمِ رَبِّكَ) فالمخاطَب -بالدرجة الأولى- اليومَ هم الذين يقرأون، ويُنتجون المعرفة، ويتبحَّرون في العلم؛ لكن بغير اسم الله، بل في الغالب اتسمت هذه القراءة بمحاربة كلِّ الأديان، بغير استثناء؛ والانتقام من جميع القيم والغايات؛ وفي هذا السبيل ولدت نظريات "الموت"، و"النهايات"، و"الصدامات"، والصدمات".

ولو أنصف العلم في عصرنا، لأدرك أننا لم نخلق إلاَّ "لنعرف الله ونعرِّفه"، "فالعيش بمقتضى القصد الإلهي هو سرُّ خلقتنا"[52].

فعلى العالِم المسلم، المستنير بالوحي وبالسراج النبوي، أن يحمل على عاتقه مهمَّة تصحيح "الرؤية الكونية"، فمن واجبه إحلال "الرؤية الكونية التوحيدية" بديلا عن "الرؤية الكونية المادية الإلحادية" في الدوائر العلمية المختلفة؛ أي من واجبه إعادة العلاقة بين "الله، والإنسان، والكون" إلى نصابها؛ وذلك "بإعادة التأسيس للنظرة الكوزمولوجية (Cosmologist)، (علم الكونيات) التي تقول بأنَّ الحبَّ هو علَّة خلق الكون" عوضا عن النظرة "الواحدية" التي "أغرقت العلومَ في خضمِّ المادة، وأصبحت صمَّاء عمياء تجاه جميع العلاقات الدينية والخلقية والميتافيزيقية، وانقلبت إلى حالة ذات بعد أحادي"[53].

وعلمٌ نافع للخلق

كان نبينا الأواه -صلى الله عليه وسلم- "إذا أصبح قال: اللهم إني أسألك علمًا نافعًا، ورزقًا طيبًا، وعملاً متقبلاً"(رواه ابن ماجه).

على ضوء هذا السراج النبوي الوهَّاج، يكون الهدف من العلم هو "النافعية" لا "النفعية"، ونعني بالنافعية الأثرَ الماديَّ والمعنويَّ، الدنويَّ والأخرويَّ معًا؛ فكلُّ علم لا يتحوَّل إلى فعل وحركية، ولا يسهم في إسعاد البشرية دنيًا وآخرةَ، ولا ينفع خلقَ الله، هو لغو وعبث وردٌّ.

أمَّا "النفعية"، التي تعني المصلحةَ، والأثر الآني، والمقابل المحسوبَ المباشر، فليست مطلوبةً ولا هي مستساغةٌ. بل هي محرَّمة شرعا، مرفوضة عقلا.

لبديع الزمان أبي العزِّ إسماعيل بين الرزاز الجزري كتابٌ بعنوان "الجامع بين العلم والعمل النافع، في صناعة الحيل"؛ هو موسوعة علمية، وخزانة للاختراعات والاكتشافات البديعة، حوت ما يزيد على خمسين اختراعا في شتى المجالات، بالتحليل وبالصور الهندسية؛ وهو مع ذلك يفتتح مشروعه الذي لا نجد له مثيلا لدى علماء العالم الإسلامي اليومَ، بقوله: "الحمد لله المبدِع صنعه في السمائيات، المودع أسرار حِكمه في الأرضيات، فهي نسخة من عالم ملكوته، ودليل قاطع على جبروته، أحمده على ما علَّم، وأستزيده من فواضل النعم، وهي مطلوبات الحكم، حمدا يماثل بعض إحسانه، وجزيل امتنانه. والصلاة والسلام على سيدنا محمد، أشرف نوع الإنسان، وعلى آله والتابعين له بإحسان"[54].

وما محنة هذا العصر إلاَّ لكون من يكتشف ويخترع، وينفع العباد -آنيا على الأقلِّ- بالأدوية، والآلات، والوسائل، والتقنيات، والأطعمة، والأشربة، ووسائل الاتصال والتواصل... وغيرها. هو في الغالب ممن يتنكَّر للخالق، ويلحد بالله؛ أمَّا من يدعو الناس إلى الصلة بالله، وينادي البشرية إلى الخير، فهو لا يزال -واحسرتاه- بعيدا عن التأثير المباشر، من إعمار الكون، والنفاذ إلى أقطار السماوات والأرض.

ولن تعرف البشرية فجرها الجديد، إلاَّ على يد علماء ربّانيين، يصدق فيهم حديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "الخلْق عيال الله، أحبُّكم إلى الله أنفعكم لعياله"(رواه البخاري). فالعالم الذي لا ينفع خلق الله إذن، بجميع أنواع النفع... العالِم الذي يعزل نفسه بين أفكاره، ويحيا مثل الأرضة على صفحات أوراقه؛ ويخاطب الناس بما لا يفهمون، هو أبعد ما يكون عن السراج النبويِّ، وهو ليس مؤهَّلا ولا أهلا لينال حبَّ الله ورعايته وعنايته.

وصدق مالك بن نبي في قوله: "إنَّ الماء لا يستقي الأرض التي تعلوه". فإن أردنا أن نهدي البشرية الحائرة، على ضوء السراج النبويِّ، علينا أن نكون أرفع منها مستوًى، وأعلى منها قدرًا، وأكثر منها نفعًا، وأزكى منها صدقًا؛ وإلاَّ اعتَبرَت خطابنا مجرَّد "ادعاء فارغ"، و"كلام لا يصدِّقه العمل".

التبليغ، غاية الغايات

في حديث أبي الدرداء رضي الله عنه، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إنَّ العلماء ورثة الأنبياء. وإنَّ الأنبياء لم يُوَرِّثوا دينارًا ولا درهمًا، وإنما وَرَّثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظٍّ وافر"(رواه أبو داود والترمذي)؛ فالحديث لا يعني أنَّ العلماء يرثون المعلومات والمعرفةَ فقط، ولكنَّهم يرثون كذلك غايةَ وجودهم، وحقيقة مسمَّاهم، وتبعات رسالتهم؛ يرثون مهمَّة "التبليغ والهداية"، و"الإرشاد والدعوة"، و"الإنذار والتبشير".

فالعالِم اليومَ، ينبغي، مهما كان تخصُّصه، أن لا يقتصر على غايات دنيَّة، مثل الشهرة، والحظوة، والذكر، والمال، والمنصب؛ وإنما واجبه، اهتداءً بالسراج النبوي، أن يجعل غايته القصوى إرشاد الناس إلى الحقِّ، ووزعَهم عن الباطل...

فالتبليغ الذي يعني "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، يجب أن يتخذه العالم، من منطلق عمله، مهمَّةً لا وظيفةً، رسالةً وأجرا لا منصبا وأجرة.

لكن، ينبغي كذلك، في عصرنا هذا، أن لا نقصر هذه المهمَّة في الصور المعتادة للتبليغ والدعوة، مثل الخطابة، والكتابة، والوعظ، والتدريس؛ مع أهميتها؛ وإنما الواجب يقضي -إضافةً إلى ذلك- أن ينبري العالِم لمعالجة "الرؤى الكونية"، و"تصحيح المفاهيم"، وخوض غمار حرب "مراكز التفكير"، و"اكتشاف أبعاد "التخطيط والتخطيط الاستراتيجي العميق"، ومعالجة "ما ينتج المعادي للإسلام وللبشرية من فلسفات، ومغالطات، ونظريات" من مثل نظريات "التطور"، و"صدام الحضارات"، و"موت المؤلف"، و"البنوية"، و"الفوضى"، و"الحروب الناعمة"... الخ.

فإن لم يكن العالم اليومَ دليلا رائدا لا يكذب أهله، لمثل هذه المخطَّطات التي تعدُّ بعناية فائقة، فمن ذا الذي يتكفَّل بهذا الثغر الخطير؟!

الهمُّ والاحتراق والشفقة

"عندما لا يحترق القلب شوقًا، والروحُ عذابًا، والذهنُ همًّا، فلا تتكلم!... وإلاَّ فلن تجد أحدًا يصغي إليك. عندما لا يملأُك الشعور بأنّ دعوتك هي قلبُ الكون، وروحُ الوجود، وأنها ميزانُ العالم، وصمَّام أمنٍ وأمانٍ له، فكيف تواتيك الشجاعة لمواجهة العالم كلِّه؟!"[55].

نقرأ معاني هذا الاحتراق، في العديد من الآيات القرآنية التي تعرض حال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع قومه، وهو يعلِّمهم الكتاب والحكمة، ويزكيهم، ويرشدهم؛ وذلك بعد أن تلقَّى الأمرَ من السماء، فأخذه على محمل الإيمان، وأخلص له، وفي سبيله ارتعد وارتعش، ثم تدثَّر وتزمَّل؛ حتى نزل عليه وحيا من العليم الحكيم: (يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ)(الْمُدَّثِّر:1)، و(يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ)(الْمُزَّمِّل:1).

ولم تخبُ جذوة الحسرة والهمِّ عند الرسول عليه السلام طرفةَ عين، حتى كان ربُّه الرحيم يواسيه، ويهدِّئ من روعه، ومِن ذلك قوله تعالى: (فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ)(فَاطِر:8)، (وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ)(النَّحْل:127)، (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ)(يُوسُف:103).

ولقد كانت الشفقة سمة الدعوة عند الرسول الحبيب -صلى الله عليه وسلم-، فكان قلبه ينبض على وقع البشرية قاطبةً، يفرح لفرحها، ويحزن لحزنها؛ مِن أبسط إنسان مكانة إلى أرفعهم قدرًا؛ ولقد قال نفديه بأرواحنا ومُهجنا: "إنَّما أنا لكم مثل الوالد"(رواه أبو داود والنسائي). بل قد يحدث أن يقسو قلبُ والد على ولده، ولكنَّ المصطفى -صلى الله عليه وسلم- لا يغلُظ قلبُه شرو نقير. كيف لا، وهو الذي نزل فيه: (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)(التَّوْبِة:128).

بالله عليكم، كم من العلماء والمرشدين اليومَ يحملون "ذرَّة" من هذا الهمِّ على البشرية الحائرة؟! وكم منهم يمارِس علمه رسالةً وجهادا واجتهادا، لا وظيفا وحِرفة ومصلحة؟! بل، كم منهم يبكي ليل نهار، بالغدو والآصال، شفقة على جماهير ألقِي بها بين مخالب الذئاب وأنياب السباع، تَنهش منها، وتغتال فيها المعنى، والقيمة، والخلق، والغاية، والحقَّ؛ فتتركها تائهة حائرة، شقيَّة هائمة، تبحث عن الدليل الخرِّيت ولا تجد؟!

أليس دورُ العالم أن يكون لها ملاذا، ومرشدا؟!

أليس مِن الحريِّ على كلِّ عالم أن يكون من الناس، يحمل همَّهم، يحترق لأجلهم، ويذوي شفقة عليهم؟!

احتمال الأذى، وتحمُّله، والصبر عليه

قال الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأمِّنا عائشة رضي الله عنها: "لقد لقيتُ من قومِك ما لقيتُ"(متفق عليه)؛ لا شكايةً وضجرًا، ولكن إخبارًا وتربيَّةً؛ وما ذلك إلا ليتلقَّف العلماءُ والمرشدون في كلِّ زمان ومكان هذه الدلالة الملازِمة لمهمَّة العالم والمرشد، فيحتمِلوا الأذى، ويتحمَّلوه، ويصبروا عليه.

وهكذا جميع الأنبياء عليهم السلام، وجميع الأفذاذ المجدِّدين عليهم شآبيبُ الرحمة، الذين رسموا بصماتهم على صفحة التاريخ، قال تعالى: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ)(الذَّارِيَات:52).

يقول بديع الزمان النورسي: "لقد افتديتُ دنياي وآخرتي في سبيل إنقاذ إيمان المجتمع. لم أذق طوال عمري البالغ نيّفا وثمانين سنة شيئا من لذائذ الدنيا... قضيتُ حياتي في ميادين الحرب وزنزانات الأسر، أو سجون الوطن ومحاكم البلاد، لم يبق صنفٌ من الآلام والمصاعب لم أتجرَّعه، عوملتُ معاملة المجرمين في المحاكم العسكرية العرفية، ونُفيت وغُرِّبت في أرجاء البلاد كالمشرَّدين، وحُرمت من مخالطة الناس شهورا في زنزانات البلاد، وسُمِّمت مرارا، وتعرَّضت لإهانات متنوِّعة، ومرَّت عليَّ أوقات رجحت الموتُ على الحياة ألف مرَّة، ولولا أنَّ ديني يمنعني من قتل نفسي فربما كان سعيدٌ الآن ترابا تحت التراب.. "[56].

أمَّا مالك بن نبي فيكتب في بعض دفاتره ومذكِّراته: "مرَّة تلو أخرى لا أجد السلام لي في هذا العالم، إنها الخيبة والشكُّ في كلِّ شيء... إذا لم تتداركني رحمة الإله فأنا ضائع جسمًا وروحًا، مثل زورق في محيط تلهو به الأعاصير العاتية، متى تعرف طريقي نهايتَها إلى الجهة الأخرى من الحياة؟ يا ربِّ، امنحني بعض الأمتار، بعض السنتيمترات، أقصِّر بها طريقي الشقية، فأنا متعب"[57].

وما يضير العلماء الربانيين الوارثين، أنهم أوذوا وصبروا، فلم يبدِّلوا ولم يغيِّروا؛ وكانوا أصحاب رسالة ومشروع وغاية؛ لا طامعي حُظوة ومكانة وأجر؛ فهؤلاء وأمثالهم يصدق فيهم أنهم استناروا بمشكاة النبوة، وساروا على درب الأنبياء؛ وما أشبههم بسحرة فرعون حين قالوا لفرعون: (لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى)(طَه:72-73) .

هكذا فليكن العالم، أو ليصمت!

العالِم أوان الفتن (خاتمة)

أشدُّ الناس امتحانا وزلزلةً أوان الفتن العلماءُ، ذلك أنهم مأمورون شرعا بالوقوف إلى جوار الحقِّ، من جهةٍ؛ ومأمورون من جهةٍ ثانية بأن يطفئوا تلك الفتن بالحكمة، التي غالبا ما لا يقبلها ولا يتقبَّلها الطرف الأقوى، بل والطائفتان جميعا، في بعض الأحيان؛ ولذا كان دورُ العالم أوان الفتن ابتداءً هو "فهمُها"، و"تحديدُ أسبابها الحقيقة"، والحذر من أن تتمَّ "مغالطته"، أو "التلاعبُ بمشاعره"، أو حتى "التشويشُ على مواقفه وخطابه"[58]؛ ثم إنه لا يملك السكوتَ، والتفرُّج؛ ولقد كتبَ الدكتور عبد الرزاق قسوم، يوم كانت الفتنة بالغةً عنان السماء في الجزائر، كتابًا معبرا دالا عنوانه: "نزيف قلم جزائري!"، ضمَّنه مقالا بعنوان: "علماء الجزائر، ما لهم لا ينطقون؟!".

ورغم أنَّ الشيخ أحمد سحنون -رحمه الله- (وهو من علماء الجزائر المشار إليهم بالبنان) قد ردَّ عليه بقصيدةِ "لا تُطل لومي"؛ إلاَّ أنَّ السؤالَ سيبقى عالقًا، والجوابَ سيغدو واجبًا؛ عالقًا في عنق كلِّ من أناره الله تعالى بنورِ العلم، واجبًا على كلِّ من تخذ النبيَّ الكريم أسوة وقدوة.

اليوم، والفتنُ تعصف أعاصيرَ هوجاء على جميع بلاد المسلمين؛ وهم في جميع الأحوال الضحيةُ الأولى والمتَّهم الأوَّل، لا يُنتظر الكثير من مدخل السياسة، ولا مِن باب حقوق الإنسان، ولا من أيِّ جهةٍ مهما كان شأنها؛ وإنما الطرف الوحيد الذي يملك مفاتيح الحلِّ، ويضع يده على فتيل السراج، هم العلماءُ الصالحون المصلحون، من كلِّ تخصُّص وفنِّ؛ فإن هم أدَّوا ما عليهم أمَّلنا الخيرَ للأمَّة، وإن هم تقاعسوا -لا قدَّر الله- فإنَّ الشقاء سيكون قدرها إلى أمدٍ بعيد.

وليس المطلوب من العالمِ أن يصف الدواء، ويكتب عنه، ولا أن يتحدَّث عن السراج، ويفتخر به؛ وإنما عليه واجب آخرُ هو النزولُ إلى الأرض، وحقنُ المريض بالجرعات اللازمة من الدواء، وحملُ السراج إلى المناطق المظلمة: من مدرسةٍ، وجامعةٍ، وبرلمانٍ، ومخبرٍ، وقناةٍ، وسوقٍ...وغيرها. وهذا ما يمكن أن نسميه "تحويل الفكر إلى فعل"، و"تجسيد العلم بالعمل"؛ مصداقا لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)(الْمَائِدَة:54). والله ولي التوفيق، وهو الهادي لسواء السبيل.

***

"نظرية كلِّ شيء": بين عجز الفزياء وتألق الوحي، الأستاذ فتح الله كولن نموذجا:

هل العلوم المادية أوثق أم الإنسانية؟

تهدف هذه المقالة العلمية إلى التشكيك في حكم قديم حديث، لطالما تكرَّر في مصادر علم "المناهج"، وفي مذكرات الباحثين ومقالاتهم؛ وهو "أنَّ العلوم المادية يسيرة يقينية، يمكن القطع فيها؛ أمَّا العلوم المتعلِّقة بالإنسان، فهي غير منضبطة، ويستحيل الانتهاء فيها إلى قاعدة، أو قانون، أو نظرية علمية محكَمة"؛ ولقد كان الواحد منَّا لسنوات يردِّد هذه القناعة، لِما يبدو فيها من "بداهة وبساطة" ابتداءً، ومن "استرخاء وتبرير" بالتبع. إلاَّ أنَّ العلم من طبيعته أن يتطوَّر، والمنهجَ من شأنه أن يُفرَك، وإلاَّ تحوَّل إلى معيارٍ، وإلى معتقَد، ففقد -بالتالي- وظيفته المعرفية الأبستمولوجية؛ وفي هذا الصدد تأكَّدتُ أنَّ القناعة الواردة أعلاه، ليست صوابًا دائما، وليست خطأً بالضرورة. وبيان ذلك ما يلي:

إنَّ العلوم المادية مصدرها "بشَريٌّ" صِرفٌ، أي إنَّه لم ينزل وحيٌ، ولن ينزل أبدا، يبيِّن الحقائق المادية بالتفصيل والتجزيء، وبالتدليل والتطبيق... ذلك أنَّ الأمر متروك لعقل الإنسان، بل -بالتعبير القرآني- هو موكول إلى "استطاعته" وجهده واجتهاده، قال تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لاَ تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ)(الرحمن:33). ومِن ثم فإنَّ استحالة استيعاب أسرار العلوم المادية سببُه ومرجعه "بشريَّة المصدر"، و"بشريَّة المنهج"، وحتمية "تطوُّر المدارك البشرية عبر الزمن".

أمَّا العلوم المتعلِّقة بالإنسان، منشأً وموضوعًا، ومسارًا ومنهجًا، والمسمَّاة بـ"العلوم الإنسانية" اصطلاحا؛ فهي إذا عوملت بمنطق بشريٍّ محضٍ، ووُظِّفت فيها قدرةُ "العقل البشريِّ المحدود" بلا سند ولا دليل، تتحوَّل إلى "حقل للأوهام والتخمينات"، وتؤول إلى "غابة للمفاجآت والاحتمالات"؛ ومن ثم يكون الحكم بأنها أقلُّ وثوقية ويقينًا من العلوم المادية صادقا، وصحيحا، لا غبار عليه.

أمَا، وإنَّ ميزة هذه الحقول الإنسانية الاجتماعية الفكرية الحضارية، أنَّ مصدَرها متكفَّل به مِن قِبل "خالق الإنسان والمصدر والعقل معًا"؛ أي ما يُعرف في مصادر المعرفة بـ"الوحي"؛ أمَا وإنها كذلك، فإنَّها تصبح أيسرَ على الفهم والإدراك، وألصقَ بالصدق المطلق، وأقربَ من الحقِّ الخالص، وأعمقَ في النفس بما لا يتجدَّد ولا يحيد؛ أعني بهذا "المصدرَ الربّاني"، الوارد من "أعلم معلِّم"، وممن "لا تبدو له البدوات"، "ولا تندُّ عن علمه شاردة ولا واردة"، بل إنَّ "الإرادة" و"الوجود" و"العلم" في حقِّه تعالى مترادفاتٌ متلازماتٌ لا تنفصل، قال تعالى:

(إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا)(يس:82)، هذه الإرادة اللاّمتناهية،

(أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ)، وهذا الأمر والعلم الذاتيُّ الكلِّي،

(فَيَكُونُ)، وهذا الوجود والتمثُّل في خطِّ الزمان والمكان.

مِن هنا ننتهي إلى أنَّ إسناد العلوم الإنسانية الحضارية بالوحي يرقى بها إلى مصافِّ "العلم اليقينيِّ"، ويحقِّق إمكانية الوصول فيها إلى "فهم شموليٍّ"، وإلى "إدراك كونيٍّ"؛ وبالتالي يكون لها السبق على العلوم المادية الصِّرفة، التي لا ولن يردفها الوحي، لكونها موكولةً إلى اجتهاد البشر.

أمَّا إذا تخلَّت العلوم المتعلِّقة بالإنسان عن المصدر المطلق المتعالى المتجاوز، فإنها تتحول إلى "ألغام، وألغاز، ومعمَّيات"، فتتفوَّق عليها العلوم المادية؛ لإنها تستند إلى العقل، والمنطق، والتجربة، وتقع تحت "تصرُّف" الراصد والدارس والباحث.

وأزعم من خلال هذه المقالة، أنَّ الأستاذ فتح الله كولن، في نتاجه الفكري وثمراته الواقعية، كان يجتهد في استجلاء معالم "نظرية يقينية، شمولية، حضارية، كونية"؛ لا تقتصر على "جانب دون جانب"، ولا على "حقل دون آخر"، بل تطال الوجودَ البشريَّ كلَّه، وهو في هذا يستقي من نبع الأنبياء والمرسلين عليهم السلام، ويسير على خطى سيدنا "ترجمان الحقائق" محمَّد عليه أزكى السلام.

يقول الأستاذ في طرق الإرشاد، تحت عنوان "الشمولية": "إنَّ الأنبياء عندما يقومون بتبليغ رسالة الله يوفون حقّ هذه المهمة بأصولها وقواعدها وطرقها الصحيحة التامَّة (...) إذ يتناولون الإنسان من جميع جوانبه، كلاًّ شاملا وغير مجزَّأ، ويقدِّمون له رسالته في إطارها الكامل دون أيِّ نقص. ومِن ثمَّ لا يبقى أيٌّ من العقل، والمنطق، والقلب، والأحاسيس، والشعور خارج أنوار الوحي، ولا يترك أو يهمل أيٌّ من هذا"[59].

وتلك النظرية الشمولية، يمكن -مجاراةً لتطوُّر المفاهيم والمناهج، وقصدًا لإبلاغ المعنى بلغة المعرفة العصرية- أن نطلق عليها اسم "نظرية كلِّ شيء" (Theory of Everything).

فهل يتمكَّن المقال من الدفاع عن هذه الأطروحة العلمية، المكوَّنة من شقين: أحدهما منهجيٌّ فلسفيٌّ، والثاني فكريٌّ حضاريٌّ؟

ذلك ما يمكن الحكم فيه إيجابا أو سلبا، بعد الاطلاع على تفاصيل الدراسة، التي أستعين فيها بالله، وأدعوه أن يريني الحقَّ حقًّا، ويهديني لاتباعه واتباع أهله. والله ولي التوفيق.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.