القسم الأول : فصول حول العلاقة بين الفكر والفعل

فهرس المقال

إخفاق الفزيائيين، وطبيعة ذلك

أولا: العجز عن تحقيق "نظرية كلِّ شيء"

لم يفلح الفيزيائيون في بناء "نظرية كلِّ شيء" وقد أصيبوا بخيبة أملٍ كبرى، رغم أنهم جنَّدوا لها جيوشا من الباحثين؛ فمثلا، ورد في مقدمة كتاب "الكون الأنيق: الأوتار الفائقة، والأبعاد الدفينة، والبحث عن النظرية النهائية" للفيزيائي "برايان غرين"، الذي صدر بالعربية ضمن سلسلة "المنظمة العربية للترجمة"، نقرأ هذه العبارة الدالة على مدى العمل العلمي المؤسَّسي في المحيط الغربي، يقول: "إنني أقرُّ بكلِّ امتنان بالدعم الكريم لأبحاثي في الفيزياء النظرية على مدى أكثر من عقد ونصف من السنين، بواسطة المؤسَّسة القومية للعلوم، ومؤسَّسة ألفريد أ. سلون، وقسم الطاقة بالولايات المتحدة. وربما ليس غريبا أن تكون أبحاثي قد تركَّزت على تأثير نظرية الأوتار الفائقة على مفهومنا عن الزمان والمكان، وفي الفصلين الأخيرين قمتُ بشرح بعض الاكتشافات التي كان لي حظٌّ المشاركة في إنجازها. ومع أنني آمل أن يستمتع القارئ بالأمور الداخلية، فإنني أدرك أن ذلك قد يترك انطباعا مبالغا فيه على الدور الذي لعبتُه في تطوير نظرية الأوتار الفائقة. ولذلك أنتهز الفرصة لأقرَّ بفضل أكثر من ألف فيزيائي من جميع أنحاء العالم، ساهموا وكرَّسوا حياتهم لجهود تحديث النظرية النهائية للكون. وإنني أعتذر لكلِّ الذين لم يتضمَّن الكتاب أبحاثهم، ولا يعكس ذلك إلاَّ وجهة النظر التي اخترتها، وتحديد حجم الكتاب"[65].

والقارئ للمقالات المتخصصة عام 2005، المنشورة في مختلف مجلات ومواقع العلوم، وكذا المطالِع لكتاب "الكون الأنيق: الزمان، المكان، الحقيقة... كل شيء لإعادة التفكير"[66]، الذي تصدَّر قائمة الكتب الأكثر مبيعا، وكان أوَّل كتاب يحظى بهذا الحجم الهائل من الاهتمام، بعد كتاب "موجز تاريخ الزمان" لـ"ستيفن هاوكنغ"[67]، الصادر في الثمانينيات؛ هذا القارئ يلاحِظ أنها تبشِّر ببوادر "نظرية كلِّ شيء"، وأنها هي نظرية الأوتار الفائقة، وهذا سيحلُّ مشكلة تأزُّم الفيزياء، والاختلال الواقع بين قوانين الكون المتناهي في الكبر وقوانين الكون المتناهي في الصغر.[68]

أمَّا بعد عامين فقط، أي خلال عام 2007م، فقد بدا أنَّ المولودَ المبشَّر به لم يهلَّ، أو أنه ولد ميِّتا، فكتب "لي سيمون" -وهو أحد رواد نظرية "الأوتار الفائفة"- مقالات بعنوان: "لا شيء بخير في الفيزياء، فشلُ نظرية الأوتار!"[69]، وهذا بعد تجنيد العقول لأكثر من عشرين عاما كاملةً، على حساب مجالات البحث الأخرى، في الفيزياء بالخصوص، الأكثر نفعا للبشرية، والأكثر إلحاحا على مسار الحضارة. ولقد تحطَّمت جميع نظريات "كلِّ شيء" الفيزيائية على عتبة المشاكل الخمسة للفيزياء المعاصرة.

وهذا بتقديرنا يعني أنَّ الفيزياء ليس دورُها هو الوصول إلى حدِّ اليقين، ولا الاهتداء إلى الصدق المطلق، ولا تحديد المعايير للفكر البشريِّ، ولا شرح الغايات والمآلات والحقائق الكبرى، وإنما دورها الهام جدًّا يكمن في التطوير، وضمان مواصلة عجلة الفكر والعقل في السير، وموضوعها لا ينبغي أن يتجاوز المادَّة إلى الإنسان أو الخالق أو المعنى أو الغيب، فهذه جميعا ليست الفيزياء مرشحة للبثِّ فيها؛ ولذا كان من خصائص العلوم الطبيعية عموما، والفيزياء بالخصوص، ما سماه "كارل بوبر": "القابلية للتفنيد"؛ فكلَّما كانت نظرية أكثر قابلية للتفنيد كانت أكثر علمية، وكلما كانت أكثر قابلية للتصديق تحولت إلى "معتقد" (dogma).[70]

ولقد زار العالم الأمريكي "مايك سيمونس" معهد المناهج بالجزائر، وألقى فيه محاضرةً حول تبسيط العلوم؛ ومن جملة الأسئلة التي طُرحت عليه من قِبل الحضور، سؤال عن "نظرية كلِّ شيء" وعن مدى تحققها وإمكانيتها؟ فكان جوابه دالاَّ على ما ذكرناه من ضعف الإنسان وأثرِ ذلك على استحالة استيعاب المطلق، قال في ذلك: "لا أستطيع نفي هذه النظرية علميًّا، ولكن، الشيء الذي أنا متأكد منه بأنَّ ضعف الإنسان وضيقَ قدراته المعرفية، لا يستطيع من خلالها أن يفسّر كلَّ ما يحدث أمامه في الكون بنظرية بشرية واحدة. فأنا أرى بأنَّ هذا غير منطقي"[71].

ثانيا: "النوترينو" يحطِّم بناء الفزياء من لدن آنشتين

ومِن أبرز الأدلَّة على أنَّ العلوم الدقيقة ليست المرشَّح الأوَّل لليقين، أنَّها دوما تستند إلى الرياضيات لتكتسي حلّة من اليقين الرياضي، وفي ذلك يقول "هينري بوانكاري": "إنَّ العلوم تتسابق لاستعمال الرياضيات للتعبير عن نفسها ولغزو المجهول!"[72]. بل إنَّ القضايا الرياضية نفسها حين تتعلق بالمنطق التجريبي تبقى معلَّقة، وغير يقينية كليًّا.[73]

ودليل آخر على "لايقينية العلوم التجريبية"، هو أنَّ نظريةً ما قد تسيطر على الفكر البشري قرونا، وتؤتي ثمارها وأُكلها، فتبنى عليها صروحٌ، ثم يأتي من يدحضها، ويبين الخطأ فيها، فتموتُ ويولد مكانها مولود هو الأنسب لذلك الزمان، ومن ذلك "نظرية نيوتن" التي حلَّ محلَّها "النظرية النسبية"، ثم جاءت "النظرية الكمومية" لتحلَّ محل "النسبية"، ومن بعدهما برزت "نظرية الفوضى".

واليومَ، وفي الأسابيع الماضية -فقط- أشارت نتيجة تجربة أجريت في "مُصادم هادرون" العائد للمنظمة الأوروبية للبحوث النووية (CERN) إلى أنَّه بإمكان بعض الجزيئات أن تتعدَّى سرعة الضوء، الأمر الذي يعتبر من المستحيلات حسب قوانين الفيزياء المعمول بها. فقد لاحظ العلماء أنَّ جزيئات "نوترينو" (Neutrino) التي أرسلت من مقرِّ المنظمة في جنيف بسويسرا (CERN Genova)، إلى مختبر "جران ساسو" (Gran Sasso) في إيطاليا، الذي يبعد عنه بمسافة 732 كيلومترا قد وصلت قبل موعدها بجزء من الثانية.

ولقد وضعت هذه النتيجة التي تهدِّد بدحض كلِّ ما توصَّل إليه علم الفيزياء في القرن الأخير على الأنترنت، لكي يدرسها العلماء. وقد نشرت النتائج يوم الجمعة 23 سبتمبر 2011، على الساعة الثانية، في موقع جامعة "كورنيل" (Cornell)[74]، فتسارعت وسائل الإعلام لنشر الخبر، ثم توالت التجارب آلاف المرات،[75] فأعطت النتيجة نفسها، حتى إنَّ مخابرَ الولايات المتحدة لم تتقبل النتيجة ابتداء، ثم نَقلت التجربة، وأعادتها، فأعطت نتيجة إيجابية.

كلُّ هذا لا يقلِّل من قيمة النظريات العلمية الفيزيائية وغيرها؛ بل الأسف ملء الجوانح من تأخُّر أصحاب الديانات عموما، والمسلمين بالخصوص، في هذا المضمار؛[76] وإنما المقصد من هذا المقال هو إثبات أنَّ ما يبدو يقينيا في حقبة زمنية قد يصير خطأ في حقبة لاحقة، وهذه ميزة العلم، وهي متلازمة مع وظيفته؛ كما لا يمكن أن تتسم العلوم المعيارية بمثل هذه الصفة، وإلاَّ زال المعيار، وشقيت البشرية.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.