القسم الأول : فصول حول العلاقة بين الفكر والفعل

فهرس المقال

إخفاق الفكر الغربي، وسقوط الأيديولوجيات التوتاليرية

لو طرح اليوم عالمٌ من العلماء إحدى أبرز النظريات الغربية، على أنها الحلُّ والجواب على "سؤال الأزمة"، فبشَّر مثلا بالماركسية، أو بالنيتشوية، أو بالفرويدية...مثلا؛ فإنه سيتحوَّل إلى مهزلة، وإلى مثال للتخلف الفكريِّ؛ وما ذلك إلاّ لكون النظريات الراديكالية، الشمولية، الاختزالية، التي تقصُر الجواب على أعمق الأزمات في "سبب واحد"، أو "جملة من الأسباب" من طبيعة واحدة، متجاهلةً تركيبية الظاهرة البشرية. يقول المسيري: "تشكل أطروحات نموذج الرصد الموضوعي المادي (المتلقي) التربة الخصبة (وليس السبب الوحيد) لظهور النماذج الاختزالية التي تتسم بما يلي: التماسك الشديد - البساطة - التجانس - الواحدية - السببية الصلبة - الطموح نحو شمولية التفسير - الطموح نحو درجة عالية من اليقينية - الطموح نحو الدقة المتناهية في المصطلحات".

ولعلنا نقتصر هنا على "العلمانية الشاملة"، التي اكتسحت -ولا تزال- عقول الملايير من البشر، ولم يسلم منها حتى المشتغلون بالفكر من "العالم الديني" كما يُفترض؛ ذلك لأنَّ هذا النموذج هيمن على مناهج وأساليب التفكير بصورة فادحة. فهذا النموذج ثبت فشله، لأنه سعى إلى "فصل القيم والغايات الدينية والأخلاقية والإنسانية عن الدولة وعن مرجعيتها النهائية، وتطبيق القانون المادي/الطبيعي على كلِّ مناحي الحياة، وتصفية أيِّ ثنائية بحيث يتم تسوية كلِّ الظواهر الإنسانية بالظواهر الطبيعية، فتنزع القداسة تمامًا عن العالم، ويتحول إلى مادة استعمالية يمكن إدراكها بالحواس الخمس" (المسيري).

فيلاحظ استعمال هذه الصيغ العمومية التعميمية: "كل"، و"أي"، و"تماما"؛ فليس فيها احتمال للنسبية، وللخطأ، وللرأي الآخر؛ ذلك أنَّ هذه النظريات الشمولية عوضَ أن تبقى نظريات في مستوى "الاجتهاد البشري"، أريد لها أن تتحوَّل إلى "ديانة"، أو إلى "بديل عن الديانة"، بحيث تجيب عن "أسئلة الوجود"، وإشكالات "الفراغ الكوني"؛ لا باعتماد المصدر الموثوق (الوحي)، والعلم الموثوق (علم الخالق)، وبالواسطة الموثوقة (الرسول)؛ لكن بالتنكر لها جميعا، وبافتراض القدرة على الاستغناء عنها كلية، وبأنَّ العقل والعلم هما المصدران الوحيدان، وما سواهما هو من قبيل "الخرافة"، أو "الغيب الذي لا يصدَّق ولا يكذَّب".

ولقد أعلن فشل "الإيديولوجيات" في العديد من المحافل، وبصيغ عديدة، منها "النهايات"، على نمط "نهاية التاريخ"، و"نهاية الإنسان"، و"نهاية المعنى"...[77] ثم على صورة "الصدامات"، على نمط "صدام الحضارات"، و"صدام الثقافات"، و"صدام القيم"...[78] وقبل ذلك كانت "الصدَمات" تنخر عمق البشرية، وتعبِّر عن الفشل الذريع للنبوات الجديدة؛ ويعبِّر عن ذلك كتاب "صدمةُ المستقبل"[79].

ولقد أوصلت "النهايات" و"الصدامات" و"الصدمات" البشريةَ إلى حافة الهاوية، وازداد العنف بمسميات مختلفة، وتأزَّم الاقتصاد، واسغولت أممٌ لقوَّتها، وديست أخرى بسبب حماقاتها وضعفها، وكلُّ هذا لا ينبئ إلاَّ عن فشل الأيديولوجيات التبشيرية، والنظريات الشمولية البشرية، ولا يدلُّ إلاَّ على ضرورة البحث من جديد عن السعادة في منظومة "التوحيد" لا في صفوف "الواحدية". يقول المسيري: "إنَّ إعلان فوكوياما نهاية التاريخ هو إعلان نهاية الإنسان وانتصار الطبيعة/المادة، أي الموضوع (اللاّإنساني) على الذات (الإنسانية)، ومعناه تَحوُّل العالم بأسره إلى كيان خاضع للقوانين الواحدية المادية (التي تجسدها الحضارة الغربية) التي لا تُفرِّق بين الإنسان والأشياء والحيوان والتي تُحوِّل العالم بأسره إلى مادة استعمالية، فنهاية التاريخ هي في واقع الأمر نهاية التاريخ الإنساني وبداية التاريخ الطبيعي".

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.