القسم الأول : فصول حول العلاقة بين الفكر والفعل

فهرس المقال

الصراع الموهوم بين العلم والدين

في ذات السياق يحلِّل الأستاذ "سبب شقاء البشرية"، وسبب عجزها عن اكتشاف الحقيقة ناصعةً، سواء في الغرب ابتداء، أم في الشرق ولوعا وأثرا، فيقول: "والمؤلم أنَّ فلسفة العلم في أوروبا -وعلى نقيض المرونة في عالمنا الفكري- قد أوقعت الغربَ كله في صراع دائم بين العلم والدين لأمور وأوضاع خصوصية، فخَلَّفَ ذلك انفصامًا بين العقل والقلب. وهذا هو السبب الرئيس للمعضلات المتتابعة منذ عصور في النُّظم الغربية كلِّها. بل لقد تفاقمت الأزمة من مخاصمةِ جبهة العلم والفلسفة للدوغمائيات الكنسية، إلى مخاصمة "المفاهيم" الدينية كافة بمرور الزمان... فكأنَّ العلم والفلسفة حاميةٌ ومدافِعةٌ عن الإلحاد. وقد أصاب -للأسف الشديد- الفكرَ الإسلاميَّ البريء، غبارٌ من هذا العداء ضد الأديان كلها، إذ عُرِّض لأشنع ظلمٍ وأبشعِ غبن، ووُضِع في قفص الاتهام مع الكنيسة التي هي المعنية في الأصل بهذه الخصومة. انقلبت هذه الحركة المعادية لدوغمائياتِ تلك التنظيمات التي ظهرت بمظهر الدين، والمنطلقةُ في بداياتها من الحرية الفكرية والعلمية.. انقلبت بمرور الزمان إلى معاداة الله والدين والتدين، ثم إلى تحمسٍ في أرجاء العالم كله لإسكات المتدينين وإحباطهم وتضييقِ الخناق عليهم، بل إزالتِهم من الوجود تمامًا. ومع أنه لم يكن للعالم الإسلامي مشكلة البتَّة مع العلم أو حريةِ الفكر، ولكنَّ زمرًا من أعداء الدين تغاضوا عن هذه الحقيقة الفارقة واتخذوه غرضًا لمراميهم العدائية الدنيئة مساوين له بالمسيحية الكنسية."[89].

الصراع الدائم بين العلم والدين كان منشأه انحرافات في الكنيسة، غير أنَّ الذين حاربوا الانحرافات كانوا "ثوريين"، فعوض أن يصفُّوا مجاري المياه، راحوا يجففون المنابع كلَّها، فحاربوا كلَّ "وحي" وكلَّ "دين" وكلَّ "إله"... يقول كارل ماركس: "الدين تنهيدة الكائن المضطهَد، قلبُ عالم لا قلب له، وروح شروط بلا روح. إنه أفيون الشعب"، أمَّا "جان ميليه" فيقول: "سأختم بالقول بأني أرجو الله الذي تثير تلك الطائفة -أي المسيحيين- سخطَه أن يتلطَّف، ويعود بنا إلى الدين الطبيعيِّ، الذي ليست المسيحية غير عدوِّه الصريح" وما الدين الطبيعيُّ سوى العلم طبعًا، ويفسر "كلوت" ذلك بقوله: "ما من إله آخر غير الطبيعة".

هذا الصراع أغرى المنتصِر، ومنحه "زهوا" و"غرورا"، حتى ظنَّ أنه يستطيع أن يقول أكثر مما يعلم، أو يمكنه أن يسحب ما يعلم ليشمل ما لا يعلم؛ وإلاَّ فما الذي يبرِّر -مثلا- آراء "ستيفن هاوكينغ" -الكوسمولوجي والفزيائي- عن الله، وعن الغيب، في مثل قوله: في كتابه الأخير "التصميم العظيم": "إنَّ العلم بات قادرا اليوم على القول إنَّ الله لم يخلق الكون، وإنَّ الانفجار الكبير لم يكن سوى عواقب حتمية لقوانين الفيزياء". وما هذا الصلف سوى ادعاء -لا مبرر له- أنَّ العالِم هو صاحب القول الفصل في "كلِّ شيء"، وهو القادر على اكتشاف نظرية تفسر "كلَّ شيء" في الوجود، ليس الماديَّ فقط، بل والمعنويَّ كذلك. وليس المحسوس فقط، بل والغيبي أيضا.

وفي رأينا، استطاع فتح الله أن يضع اليد على الجرح، بحديثه عن "ديكتاتورية العلم" أو بالأحرى، "حين يحترف العالم الظلم باسم العلم"، ويقول عنها إنها تحولَّت إلى احتراف: "معاداة الله والدين والتدين، ثم إلى تحمُّسٍ في أرجاء العالم كلِّه، لإسكات المتدينين، وإحباطهم، وتضييقِ الخناق عليهم، بل إزالتِهم من الوجود تمامًا"[90]. ولكم قرأنا من كتب حول "ديمقراطية العلم"، وعن "الحرية في العلم"، وعن أنَّ "الاستبداد وليد الدين لا العلم"؛ وها هو فتح الله يكشف النقاب عن العكس، وهو كذلك لا ينفي أن يولد التعصب والظلم من رحم الدين، حين ينحرف أهله به.

وهذه خطوة أخرى في نظرية المعرفة، من منظور "أصيل" لا "تأصيلي كما يسمَّى أحيانا"؛ لعلَّ فتح الله هو أحد أبرز روَّادها، لو تمكننا من دراستها، والتنظير لها، بعقلية منفتحة، وجهد لا يقتصر على الفرد، ولكن يتجاوزه إلى "جماعة علمية"، بكل ما يعنيه المصطلح من دلالة.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.