الفصل الثاني: المعمار وشخصية الأستاذ النهضوي

فهرس المقال

فتح الله كُولن والكعبة

أبرز ما تتجلى الصلة الوثقى والألفة الرؤوم بين كولن وبين الأماكن المقدسة، في علاقته مع الكعبة، بل يمكننا القول: إن طائفة كبرى من المواجد والمكامن القلبية التي ظلت تربطه بالرحاب والعتبات المسجدية التي اختلف إليها أو سكنها في مراحل من عمره، قد تأتى له أن يستظهرها تحت تأثير الجيشان الروحي والقلبي الذي طرأ عليه حين حل بالديار المقدسة يؤدي فريضة الحج.

ولعل أهم ما نسجله في هذا الصدد أن مشاعره كانت تجد من قوة التفجُّر حيال مبنى الكعبة ما يجده الغريب حال لقائه بأحبته، بل أقوى وأحر. فحلول كولن بالبقاع المقدسة أطلق ما ظل من نفسه مكتومًا وضاغطًا ومتحفزًا للانفلات. فلكأنه طفل أمضَّه الفراق والبعاد، فإذا هو يرتد فجأة إلى أرق صدر وأحن فؤاد، فليس يسعه إلا أن يرتمي فيه، يطوقه بيديه الصغيرتين، "ويضع نفسه في شوق شديد في أحضانه" .

بل إن الكعبة جسَّدت في وعي كولن شخصية أهم روحين أحبهما: روح جدته، وروح والدته "كأن الكعبة حسب موقعها ووضعها، أم أو جدة جالسة في أفضل مكان في البيت؛ لتشارك أولادها وأحفادها مسرّاتهم وأحزانهم، وتعيش آلامهم، تجول بنظرها فيما حولها.. ويحسب الإنسان وهو يطوف حولها.. كأنه طفل تمسك أمه بيده بقوة، ليشعر بمزيد من الإيمان" .

ومن المؤكد أن ما استفاض كولن في الإعراب عنه من مشاعر وهو يحل بالكعبة، كان يتساوق مع مجرى نهري من العواطف والتباريح التي تنامت في روحه عبر السنين والعقود، في ظل صلة عضوية وملابسة واقعية للمسجد وأجوائه وروحانيته.

ولا ريب أن اندلاع ينابيعه وهو يطوف بالحرمين، كان ذروة في الهيمان القلبي، بل لا بد أنه كان من جنس ما ظلت بواطن كولن تتفجر به في تفاعلها المستمر مع المنابر والمحاريب والردهات والمعمار، لكنه كان أعمق غورًا، وأبعد مدى.

فالحال التي طرأت على كولن في أرض الحرمين، قد اكتسحت كيانه، وعصفت بسكينته، وفاقمت من لواعجه بنوعية من العواطف، وعيارًا من الشدة، لا قِبَل له بها؛ إذ فاقت بوطأتها ما اعتادت عليه خزائن قلبه من مكابدة واحتمال.

أجل إن كل من يَحُلُّ بالبقاع المباركة يتواجد ويعاني ذلك المستوى من التصدع الشاق، اللذيذ، الذي قد لا يتكرر قط. إنما شدة ذلك العناء تكون على أهل الله ساحقة، ولا تضاهَى، فالحرم القدسي يعطي من المنح البرزخية على قدر ما يعرض كل متسوّق وجالب من بضاعة.

ومن خلال تتبعنا لخواطره، ولما سجله من بوحيات وصدرت عنه وهو في طوافه بين معالم الحرمين، نستبين شلال المواجد والعواطف الذي ظل يغمره وهو يفاعل المعالم المقدسة؛ نتيجةً لما درَّت به نفسُه حيال تلك المعالم من فيوض.

لقد وجدناه -تحت تأثير التَّوَلُّه- يمضي في شخصنة مكونات المشهد المكي والمدني، ويستغرقه استبطان حنايا تلك الأماكن، وإضفاء الصفات والتشبيهات على كل مرفق.. ولا نشك أن تلك عادة اعتادها من جراء ملازمة المنبر، ومساكنة الصحن، والتواصل مع السواري والأركان، تواصلاً حيًّا له دفء وروح ولسان؛ إذ إن الأرواح التي تريضت على التواشج مع عالم الميتافيزيقا، ومع ما فوق العقل، تكتسب قابلية روْحَنَة المكان، فهي تتحاور بطبيعتها الرهيفة مع سائر معطيات الكون، ولها في المشهد الحسي من حولها كتاب مفتوح تخترقه على الدوام، وتنفذ إلى الآفاق، وترى من خلاله ما لا يراه فيه الحسيون من تشفيرات، ولا شك أن حال العروج يبلغ ذروته بها، حين تحل بأرض الحرمَين وتستقر في حمى الأقدسَين.

بل إن من شأن انغمار أهل الروح في جو الحرم الشريف، أن يجعلهم يعرجون إلى عالم الملكوت، فلا عجب أن تأخذ الأشياء والمعالم القدسية في ذلك الصعيد، أبعادًا وقيمًا أخرى، فـ"الكعبة حريم مفتوح لأسرار الصديق، وما حواليها مضيف مفتوح للغير، والصفا والمروةُ بمثابة قمرية لمشاهدة سماء الحقيقة وتأملها، وهناك المقام الإبراهيمي كسلّم نوراني يقود إلى ما وراء الأفق، ثم بئر زمزم كأنها ساقي الشراب في مجلس العشق الإلهي.." .

العشق يسمو إلى الذروة بصورة المعشوق. ومن المؤكد أن عملية الإكبار والإعلاء التي تمارسها النفس إزاء شخص المحبوب، هي التي تكون وراء ذلك السُّكْر والوله الذي يبديه العاشق؛ ذلك لأن العشق آلية تنقلب فيها المعطيات؛ إذ تضحى الصورة الحسية (شخص المحبوب) هي المثال، والمثالُ صورةٌ حسية؛ من هنا يرى المتيَّمُ عناصرَ الكمال تتناهى في منظر عشيقه.

بهذه الدينامية يتعشق أهل الروح دائمًا الماوراء. فما يشخص أمامهم من أعيان، ليس هو بذاته مادة الكمال المطلق، إنما هو ماهيات إحالية، تترقى الروح من صددها، وتنْفذ إلى الجوهر المكنون. لذا ترى خطابهم يتلبس بالاستعارة والتشبيه والمجاز؛ إعرابًا عن تلك الحال التواصلية. وهو ما جسَّده خطاب كولن في المقتطع السالف؛ إذ وصف المشهد الشريف، وتمثَّلَ لكل مكوِّنٍ فيه صورة، وطابقه في هيئة، وتماهى به في منظر. فالكعبة حريم، ومرافقها مضيفٌ، والصفا والمروة قمرية ومنظار رصد، وزمزم نديم أو نادل يتعهد المجلس بالشراب.

وإن أسمى مراتب العشق ما تعلق بالمضمر والمجرد واللامرئي، ولم يختلق الشعراء الاستعارة إلا لأنهم طمحوا إلى أن يروا في الشخوص التي أحبوها مستوى أعلى وآسر مما هي في حقيقتها. فطالما شبَّهوا الوجه بالقمر؛ لأن حيثيته "الوجه" الحسية تعاني في لاشعور المحب محدودية ما، فهو لذلك يطابقها بكينونة أبعد وأكثر امتناعًا. فلكأنه يريد أن يتجاوز بـ"المعطى" الشاخص، المتفرد، المحدود، إلى أفق آخر، يُكسب ذلك المعطى الكمال والكثرة والمطلقية.. وتلك هي بالذات منازع الروح في تواصلها مع خالقها، ينمّي فيها دوامُ الشوق أجنحةً، تتشقق عنها الشرنقة، فترفرف وتحلق نحو مراقي الكمال.

إننا ننزع إلى الإعلاء حين يتعلق الأمر بمفهوم الربوبية؛ لأن الفطرة تتأبى عن أن تجسّد فكرة المطلق وأن تُشَيِّئ معاني القدسي إلى أشياء.. والرمز حين نُلبسه هوية المقدس؛ فذلك لأن الفطرة ترفض أن ترى الكلي محصورًا في العيني، فهي تختلق -من ثمة- الشكل الأيقوني المناسب له؛ حفظًا لجلاله.. والمتحنّفون أدركوا بقوة الفطرة وسلامتها أن الرب المعبود لا يمكن أن يكون مشخصًا في هيئة وجرم وماهية كيفما كان سموّها وتَنَزُّهها وامتناعها عن الملابسة الحسية. والقرآن حلّ من الجذور مسألة الماهية الربوبية حين نفى عنها الشَّبَه والمثلية؛ إذ بتقريره مبدأ •لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ§(الشورى:11) أرسى فلسفة اليقين اللاحسي، وأخرج نهائيًّا فكرة القدسي من مدار الحس (مدار التوثن)، واستقر بها في مدار الروح (مدار اليقين الغيبي).

بهذه العلاقة يتواصل الروحانيون مع المجتمع والحياة، ويبنون علاقاتهم مع الغيب.. زخم زاخر من المطابقات يتلبس معانيهم وخطبهم، يعاينون بها الوقائع. فلكأن بواطنهم ترى بأكثر من عين، وتحس بأكثر من حس.. في كل لقطة يستوعبون المظهر، وينفذون إلى ما ورائه، فهم أبدًا في رحلة إدراك؛ إذ لكل طرفة عين ما قبل وما بعد، ولكل لمحة تجلٍّ ظاهر وباطن، ولكل خطرة خاطر شهود وغيبة. من هنا نجد روح التحاور والتمازج والتعاشق مستقرة لديهم، وتتميز بكل تلك القوة والحيوية، فهم لذلك يحيون سجالاً متواصلاً من التحسس، والسبر، والتنفذ، فلا غرابة أن يكونوا يسمعون ما لا نسمع، ويبصرون ما لا نبصر، ويدركون ما لا ندرك "فقهًا وآفاقًا".

ولقد عرف كولن -كما يظهر في ما كتب عن ذكرياته حول الحج- أحوالاً عارمة من التجنيح والإِبحار الماورائي؛ إذ تلاحم منذ أول وهلة، وبعمق، مع الأرض المقدسة "هذه البلدة التي لن أبدل حفنة واحدة من ترابها بالعالم كله" ، ولبث يتناجى مع الحجارة والجداريات والأبواب والسواري، بل طفق يستشعر أن قلبه تشرَّع فجأة، فأضحى شخصُه واجهة من منافذ تتيح لروحه أن تشرئب وتتعلق بالعالم اللامرئي.

ومن المؤكد أن مواجهته للعتبات القدسية، وملابسته للمجالي والمعمار في تلك الديار المطهرة، قد عمّق من وارد الرعدة داخل كيانه؛ إذ قوة الصعْق تتولد عن موقف الشهود والسفور.

وتلفتنا ملاحظاته إلى الكيفية التي شاهد بها تلك البقاع وعاين عمارتها؛ إذ رأى الكعبة تخليقًا صنعته يد الغيب، وليس حجارة تراصفت ومعمارًا تساوق على ذلك النحو، فلقد تهيأ له أن البيت كيان خرج في تَشَكُّله وتموقعه عن الأنساق المعهودة، فلكأنه انبثاقٌ صميم من الأرض، أو معمار نحت في طبقات السماء، ثم أُنزل ليأخذ موقعه في الوادي.. "فكأنها لم تبنَ بمواد بناء من الخارج، بل انبثقت من جوف الأرض، أو كأن الملائكة بنتها في السماء، ثم أنزلتها إلى الأرض".

وتنشأ في شعوره للكعبة أوضاع ومقامات نتيجة الخفقان الباطني الذي يلح عليه، فلا يفتأ ينوّع تصوراته وتوصيفاته لها: "منظرها الوقور وظل جبهتها النوراني المنعكس على المرمر"، "الكعبة زهرة نبتت في حضن العماء"، "دُرة تاريخية تضاعفت قيمتها"، "الكعبة بيت في الأرض يحمل أسرار وغموض روح البناء ومعناه"، "الكعبة مكان عند الحضرة".. "أستاذ ناصح للإنسان، مرشد له، يهمس في قلبه شيئًا ما على الدوام"..

بل وإنه ليتمثل لها هويات وكينونات، كقوله مثلاً: "الكعبة سلطان المحاريب".

وواضح هنا الإسقاط الشعوري الذي يعرب عنه كولن؛ إذ هو لا يخبر فحسب، عما غمره من مشاعر حال احتكاكه بالكعبة، ولكن يخبر أيضًا عما ظل يستشعره خلال تلك المرحلة التي عاشر فيها المساجد وساكن أجواءها المهيجة.. إن الخبرة هنا قد تلابس فيها البعد المستجد الناشئ عن جيشان الروح في خضم تأديته شعيرة الطواف، مع البعد الوطيد المتراكم في الوجدان، والذي خبرته الجوانح، وتوطَّنتْ عليه الروح في مجرى أيام حياتها من طول مخادنة المسجد.

تواجد كُولن بالكعبة، هو تواجد بالمعمار، وكل مسلم إنما تلقن أبجدية عشق المعمار من خلال أشواقه للكعبة، وتولّهه بها، وتوقه إلى مشاهدة الحرمين؛ حيث مقام إبراهيم أبو الأنبياء، وحيث روضة الرسول -صلى الله عليه وسلم- سيد النبيين.

فالشكل التكعيبي القائم في ذلك الصعيد المكي، يتقمص بأبعاده الهندسية المتوازية، حُلة روحية تعطيه جلالاً يخرج به تمامًا عن الصورة المجردة التي ينتصب فيها.

ومن المؤكد أن جَيَشَان وجدان كولن بسيل من المشاعر وهو يطأ ثرى الحرم المكي، كان جيشانًا عاتيًا، وإن بعض أصداء تلك المشاعر الطامية التي اجتاحته هناك، قد عكسته بقوة نصوصه التي سجَّل فيها ذكرياته عن رحلة الحج (في كتابه ترانيم روح وأشجان قلب)، لقد أحدثت أجواء البقاع المقدسة في نفسه الاضطرام البالغ، ولم يكن يسعه إلا أن يرسل العنان لمشاعره أن تتدفق، ولقلمه أن يسرح؛ كي يدبِّج لنا تلك النصوص المفعمة بالعشق.

لا ريب أن كولن قد استفرغ في ذلك الافتتان التلويني الذي أنجزته الأدبية، بعض ما طرأ عليه، ولازمه، بل واستقر قي قلبه وروحه، من فيضٍ، بتأثير تلك المشاهد الطاهرة.

فالتعبيرية وهي تستعيد تفاصيل تلك الرحلة المشهودة، قد انساقت وراء انهمال جارف من الانفعالات التي عمل الخطاب بقوة على استظهارها والكشف عنها، فحشد منظومة بيانية وتصويرية، واستنفر اللغة القلبية، ووفَّر لها الإسناد، مُمَثَّلاً في فاعليات التشبيه والاستعارة ومفارز التلوين المجازي الأخرى، ووظَّف كل ذلك اللوجيستيك لأجل أن يستنفد شيئًا من دفقها في الوجدان.

إن الكعبة في حرير تلك الشعرية التي نسجها قلم كولن، غدت موضوع تلوين وتشكيل متوتر.. والكلمة صارت فرشاة تسترفد الحُزَم الضوئية، وتهيلها على المشهد، وتُجلِّيه في منشور من الأطياف والخطوط القزحية، وتُفَجِّر المعاني مُوَشَّاة بما لا يحصى من الأصباغ.

وإنك لتقرأ سياقات التواجد تلك، فترى الفكرة قد انغمرت في متواليات من التشبيهات والاستعارات والكنايات، ومن المفردات التي تخصَّبت دلالتها، والتراكيب الوثابة، المتحركة في انسجام وفانتازيا كأنها أسراب سمك بحري، بحيث تستشعر أن الشعر قد حل محل الفكر، بل إن الفكر استحال غلالات وضاءة، ومشاعر طافحة بالأنغام: "الكعبة بموقعها بين الجبال والتلال المهيبة تشبه زنبقة الماء منشقة عن برعمها، فهي بمثابة فانوس سحري يحمل سر الوجود، ومسقط سدرة المنتهى، أو هي بلورة من عصارة العوالم التي وراء السماوات" .

لا ريب أن التوهج الوجداني قد ارتفع بمستوى الشعرية صعدًا، وأن الأدبية قد مازجت بين المذاقات والأنداء، فاغترفت لتشخيص المعنى القلبي من حقول الحس (الجبال، التلال..) ومن الطبيعة الفردوسية (زهرة، زنبقة، الماء، برعم)، وتفاعلت مع العرفان الصوفي والمعاني الجامحة (سر الوجود، سدرة المنتهى)، واسترفدت ثقافة المواسم (فانوس سحري)، واستمدت من عالم الفن والزينة (بلورة)، واستنزلت من المجال الذهني والتجريدي (عصارة العوالم التي وراء السماوات..) ما جعل ذلك الطراز من النصية يتناهى في الحسن والأداء، ويخرج في هيئة كورالية مهيبة.

لقد رأينا كولن يقر أنه يحرص على أن يُجوِّد في البث.. وفعلاً، فلقد لمسناه في تحبيراته التي خص بها البقاع المقدسة، وفي تناجياته مع بيوت الله، يجنِّح عاليًا في سماء الشعرية، ويشيد زخارف تَرْشح بسيول من العطر الفواح.

لقد لبث -بحكم مسار حياته- يحس بعلاقة معينة مع الأشياء المباركة، وظل يتأسى بما ينتج عن تلك العلاقة من مشاعر وأفكار وتصورات وتلقّيات مختلفة ومتغيرة على الدوام ضمن دائرة الفن- المعبد ومطاف الأرواح المقدسة. لكن أعماقه المليئة بالجراح كانت أبدًا نازفة.

فهو يقرأ في حال الكعبة حال أمته. فالتألم لحال الكعبة شكَّلَ الخلفيةَ القاتمة التي صدرت عنها أفكار كولن وهو يقوِّم وضع أمته المتردي؛ إذ لم يقتصر الدمار على إتلاف رصيد الأمة من الرأسمال الرمزي، ولم يستثن قطاعًا من قطاعات الحياة، بل لقد شمل الداءُ سائر مستويات الواقع الملي؛ إذ استشرت الترديات، وبلغت حدًّا مؤسفًًا.

يروي كولن عن الإمام الرباني قائلاً: "كنت أطوف بالكعبة، وفجأة شاهدتها وهي تتعالى نحو السماء.. كانت تتعالى من جهة، ومن جهة أخرى تشكو من عدم قيام الناس بوظيفة العبودية الحقة، أمسكت بطرف ستارها وتوسلت إليها أن ترجع".

بعد أن ينهي كولن الرواية، يقف عندها متسائلاً: "فهل رجعت بروحها وسرها، وهل بقيت في مكانها أم لا؟ ثم يستطرد قائلاً: يصعب الإجابة على هذا السؤال دون وجود من ذلك النمط والمستوى.. لعل الوضع الأليم الحالي للمؤمنين ينبع من تعرض الكعبة إلى مثل هذه الاستهانة وعدم التوقير" .!

حادثة البكائية الشهيرة التي وقعت لكُولن في جامع حِصار بإزْمير، جسَّدت في بُعدها الرمزي ارتحال المسجد، بل إنها أعادت إلى الأذهان واقعة ارتحال الكعبة كما أخبر عنها الإمام الرباني، وكان الأثر لتلك البكائية فوريًّا على المصلين؛ إذ إن تلك الجموع التي فزعت تترجى الإمام الرجوع عن قراره مغادرة المسجد وترك الدروس، عاشت شيئًا من الوجل من جنس المشاعر والمعاني التي عاشها الرباني وهو يتعلق بأردية الكعبة، إثناءً لها عن الارتحال.

لقد أورد كولن خبر ارتفاع الكعبة، في سياق تحسره عما وقع للمسلمين اليوم في علاقتهم بدينهم.

ومن المؤكد أن صورة "ارتحال الكعبة" التي يوردها كولن -رواية عن الرباني- إنما تؤكد ما صارت إليه العقيدة الإسلامية بعد أن فرط المسلمون في تعاليمها، وتهاونوا في التمسك بمبادئها والإفادة من حكمتها ومنطلقاتها التربوية والترشيدية.. وإذ يورد كولن خبر الرباني بشأن الكعبة، فلأنه هو أيضًا وجد نفسه يعيش نفس التحطم، ويرثي بنفس المشاعر لمآل المسلمين.. وإن واقعة ارتفاع الكعبة ليحمل من الإيعازات الرمزية ما يعني أن اليأس من استعادة الحياة والشرف كان طامًّا، بعد أن انحفرت الهوة السحيقة بين الأمة ودينها، فارتفاع الكعبة -الإشارة رمزية- هو إعلان عن انقطاع الحبل بين الإسلام والمسلمين، لقد انتهت الأمة إلى درك باتت فيه المقومات القدسية نفسها تتنصل من علاقة الانتساب التي ربطتها بالأمة.

في ارتحال الكعبة ارتحال لأعرق تراث روحي أرشتكتوري يوجد على ظهر الأرض، وهو التراث المعماري الإبراهيمي؛ إذ إن إبراهيم هو باني ومجدد ذلك المقام الروحي، قبلة للناس ومشعرًا حرامًا يحجون إليه، فيتذكرون موثقهم مع الخالق، ويستحضرون أطوار الرقي التي تعهدتهم بها الربوبية.

وارتحال الكعبة هو أيضًا ارتحال المساجد (التراث المحمدي) عن أوطانها، من خلال عوادي الانحسار التغريبي الذي استهدف بيوت الله في تركيا الأتاتوركية.

لقد عملوا على إعاقة المسجد، وفصله عن وظيفته الإيمانية، والتسفل به إلى دور متحفي سياحي عقيم، وإن في استدعاء كولن لصورة الكعبة وهي تهجر الأرض، إنما كان تعبيرًا عن حالة الإعدام التي تتهدد العقيدة المحمدية.

لقد كان يؤرقه التراجع الخطير للدور التنويري المسجدي في بلاده، وكان في التذكير بواقعة رحيل الكعبة -كما رواها الرباني- أظهر صورة يعرب بها كولن عن حسرته وتغصصه بذلك الواقع اللاديني الذي يسود الوطن التركي.

من خلال سرد واقعة ترحيل الكعبة الرمزي، يعرب عن خشية بالغة من مغبة أن تموت الأرض وينعدم الوجود، فموت الأرض -بالنسبة إليه- حدثٌ جلل؛ لأنه يعني الإنسانية؛ إذ إن كولن يرى للمسجد دورًا ربانيًّا لا بد وأن يشمل الإنسانية يومًا ما، وإذا كان القرآن هو عقل الأرض كما يعبر النورسي، فإن الكعبة -الأم الرمز لبيوت الله - هي -بحسب كولن- روح الأرض، وبقاؤها بقاؤها.

إنه يتفجع لمرأى المباني الدينية منكسة: الكعبة، أيا صوفيا، القدس... ومثلما تفجع لحال الكعبة، حين التمح فيها أعراض الانكسار والصدود، نجده كذلك يقرأ بتمزق قلبي مفجع حال أياصوفيا، ليس فحسب لأنه ألفاها تعيش الأسر الحقيقي، ولكن لأنه رآها تستجمع أعراض الامتحان كلها، بل إننا نستبين بين السطور، أنه يستعرض ما كان يحياه هو بالذات من مكابدات. فحديثه عن أياصوفيا هو حديثه عن نفسه، فهو هي، وهي هو، يتقمصها وتتقمصه، لا لأنهما صنوان، ولكن لأنهما شيء واحد.

"إنها بوضعها المنعزل الحزين الحالي، ووحدتها التي يتفطر لها القلب حزنًا وغمًّا، وبجو الهزيمة التي تعمقت ألوانها بمرور الزمن، لا تزال مثل طفل يحاول جلب الانتباه إليه، والحديث عنه، وتحبيب نفسه، فتسعى لملء العيون والدخول إلى القلوب، والتحول بجو من ماضيها إلى لون، وضوء، وشِعر ينساب في أرواحنا" .

هكذا نراه يغيب في ضراعات يتحسر فيها ويرسل الأنين، ويتناجى مع الغيب، ويستدعي المعالم القدسية، ويؤاسيها على ما تعيش من اعتقال دبَّره لها العاقون، وتُسام به من تعطيل وصَرْفٍ عن الدور.

ونراه يدأب على النجوى ومطارحة تلك المعالم همومَه، ففي مخاطبته لجامع أياصوفيا، نجده يشرع أبواب قلبه متخففًا من بعض ما يحمل من رهق، ومعربًا في الآن نفسه عما كان يأمله لها (أيا صوفيا) -ولسواها- من وضع بديل ودينامي ومُثَوِّر هي أكرم وأجدر به، باعتبارها من معدات تحريك روح الأمة، فلا ينبغي أن تبقى معطلة، معاقة عن أداء رسالتها.

"يا رب.. يا مُفتِّح كل الأبواب الموصدة.. افتح لنا مفاتيح أياصوفيا الصدئة، وأبوابها المغلقة مثلما فتحت آلاف الأبواب الأخرى، ونوِّر أرضها التي اسودت نتيجة حرمانها من سجادات السجود مرة أخرى" . أياصوفيا تنتظر أن تنفتح أبواب السماء فجأة على مصارعها، وتنهمر الأنوار والآمال على قلوبنا من وراء الآفاق.

ويمتد حبل الأسى لمرأى المعالم المسجدية راسفة في القيد، وينعكس ظل انكسارها على روح كولن، فيمضي في تتبع الأصداء المتفجعة تنبعث من أصوات المنائر، ومن صدور المآذن.

بين طوب قابو وأياصوفيا وجامع السلطان أحمد، يمتد نطاق من الحزن، ويكتنف روح كولن، فيرسل الزفرات، ولا يفتأ يشد على الأنفاس، ففي أحشائه مئات المثاقب تمزق كيانه قطعة قطعة، "أحيانًا تبدو أصوات الأذان المرتفعة من مآذن جامع السلطان أحمد، الواصلة إلى قصر طوب قابو، وكأنها صرخات آتية من أياصوفيا" .

إن الكمد الذي يسحق الروح يتحول إلى مشهد من ثكالى ينتحبن ويعددن فجائعهن. إن النص هنا يحصي لواعج أياصوفيا، يسرد مآتمها، يستعرض ليل هوانها، وأيام استخزائها وهي تنتظر المنقذ.. وفي كل ذلك كشف عما ينطوي عليه فؤاد كولن من تباريح.

ينهمل باطنه بالأحزان وهو يتناجى مع الكعبة، أو يذرف الدمع على الأقصى، ويتنقل في المكان فتضحى عينه، بل خياله، حاسة نظر مكبرة، يقرأ المواقع، ويُشيد فوقها حيوات الرجال الذين مضَوْا من هناك، لكنهم سكنوا القلب، واستقروا في الضمير.

يتمسح بكل ركن وقائمة، ويتوقف عند كل شبر، ويتيه في الأصداء، يخرج عن ذاته ويحل في ذات أخرى، ذهولاً وانخطافًا بالهمس المتزايد الذي يأتيه من كل وجهة، ومن حيثما التفت، "أنا" آخر ينبعث فينا حين نقتحم إقليم الإيمان، "أنا" يتماوج فيه الخفي والأخفى.

شتاء زمهريري يحاصر الروح وهي تذرع الأزمنة والأمكنة، مصعوقة بمشاعر الإفلاس التي تراها ماثلة حيالها، شاخصة للعيان. الكعبة دامعة، مُشيحة، تهمُّ بالرحيل، والأقصى منكّس ينوء بالقيود، وأياصوفيا سبية مجلوبة في سوق النخاسين، تفتر عن أسنان مُفحَّمة، تداهن المساومين.

إحساس وحيد يتملكنا في سائر هذه الأفضية التي تجرجرنا عبرها مصورة كولن، أنْ نفلت ولا ننهي الجولة؛ إذ لا قدرة لنا على الاحتمال. كل ما توعز به الجمل والعبارات والمقاطع من مشاعر الوجع والاستخذاء يطرقنا، ينفذ إلى أعماقنا، يكبلنا من كل صوب، يواجهنا عينًا لعين، فلا نملك غير أن ننكسر وننهزم في وجوم.

الحج مُهيِّجٌ فادح لحساسية المكان عند كولن، والكعبة تنتصب أمامه في لحظة ما، كأنها سورة من القرآن: المائدة أو الرحمن، أو النجم أو المؤمنون.. بل صرح باهر، معماريته زمرد وزبرجد وياقوت، بل إنه ليراها امرأة في حلقة فقه، والناس من حولها يُقيِّدون، فيجلس هو أيضًا ليتعلم من فيض ما تلقي به إلى المجتمعين "الكعبة تنظر من ناحية إلينا، ومن ناحية أخرى إلى ما وراء هذا العالم المادي" .

يلح عليه اليقين من أنه، وهو متجرد إلا من لفة الإحرام، إنما يرفل في أردية الابتهال الزاهية، بل لقد أضحت أصوات التلبية و"الأدعية ملابس حرير تحيط بأجسامنا" .

كل مِشعر في الحرم مِنَصة عروج تقلُّه إلى الأفق الأعلى: عرفات، مزدلفة، منى، الجمرات.. كلما خطا خطوة طفا صُعُدًا، وسار منطلقًا في ملكوت الحرم الفسيح، لا ساتر بينه وبين السماء.. من كل الآفاق حشود من الأيدي تمتد ناحيته، تصافح، وتشد، الكون من حواليه أضحى قبابًا تحتويه، وسواري تسير في ركابه، وهو متجه إلى الذروة، هناك يريد أن يرى العرش، حراء حيث تُوِّج محمدٌ -صلى الله عليه وسلم- سلطانًا على أهل الدنيا.

لا غرو أن يجد كولن روحه تنجذب إلى كل ملمح في المشهد الطاهر. فالمؤمنون "يحسون بعلاقات معينة مع الأشياء المباركة" ، علاقات ملؤها المشاعر والأفكار والتصورات والتلقّيات التي تتولد عن تفاعل "الفن والمسجد" وانشراح الروح، لتلقي أنوار السماء.

إحساس عارم بالكثافة حينًا، وبالشفوف حينًا آخر، يعمه ويخترقه من فوق، ومن تحت، وعن ذات اليمين وذات الشمال، فأضحى جسد الأرض إِبَرًا كظهر القنفذ، لها وخز مُلِذٌّ، تتخدر به الأوصال، لم يعد يرى الكعبة ترتفع، بل كان هو الذي يرتفع نحو السحاب، تقلُّه قوى لا قِبَل له بها، يصعد مشدودًا بحبال، كأنها سُلَّم غير مرئي، تشق به عنان السماء، ما زال -وهو في ذلك الموقف بين الأرض والسماء- يجد بقية من حال طالما انبعثت فيه في ظل الرواق المسجدي بالسليمية، لكنها هنا وهو في حضرة حراء، يجدها أكثف وأثقل "فيثور قلبه.. ويسمع في أعماقه أنغامًا لمشاعر شوق وعشق.. ثم إذا بِتَداعيات ذلك الجو والإقليم الذهبي تلف كيانه بأصول وكلمات وخيالات لا تُعد ولا تُحصى" .

ما أشدَّها عجبًا ودهشًا تلك "الألطاف التي تنهمر على قلوبنا من المنافذ المنفتحة في خيالنا، ومن البوارق في صدورنا، ومن الأسرار التي تطير بأرواحنا، وتنصرف وكأن في كل خطوة نخطوها بابًا سريًّا سينفتح أمامنا مع دعوة لنا للدخول منه، ونحسب أننا نكاد نقطف لذة لم نعرفها من قبل، فنحس بقلوبنا تدق بعنف، عندها نشعر بعظمة الكعبة" .

ثم تنعطف به الرحلة إلى صوب الحرم الشريف، وتتقاطع في ذهنه صورة الروضة مع صورة الكهف، بل ومع صورة الفردوس، وذات السكر يحياه وهو يتفيأ الأنداء والظلال والنسائم، "الجدران هنا والأعمدة والقباب التي تبدو وكأن مثاقب العشق قد حفرتها، بل حتى الأرضيات ومفروشاتها وكل شيء تقريبًا لوحات جمال، تذكّرنا بألوانها الزرقاء والخضراء والصفراء، ألوان الزهور الرقيقة" .

بل إن سلطان العشق يغدو أشد وطئًا على روحه، فلكأنه خرج من حال إلى حال، أو أنه رُقي من درج إلى درج آخر، "يلفنا جو العبادة في الكعبة، وجو العشق والهيام في الروضة المطهرة"، وتتشرع الأصعدة المقدسة لقلبه على أزمنة النبوة، واسترسال مواكب السماء نحو الأرض، وملاحم الحق التي خاضها أنبياؤه المصطفون منذ فجر الخليقة، فلا يزال "يتعرف على أقدم الحقائق التي لا تبلى، أبدًا، وعلى الحقائق الأولية التي تبقى نضرة على الدوام، ويمتزج بها، ويصل منها إلى أحوال لن ينساها أبدًا" .

وهنا أيضًا، في هذا المقام الزاخر بالذهول، نرى كينونة "كولن" تتحول إلى ممرات وأبواب ومنافذ تعبرها أنوار السماء، وتغمرها تدفقات العطر المنبعث من الروضة. "هناك أبواب كثيرة تنفتح نحو صاحب الروضة الطاهرة مثل انفتاح القلوب والصدور المتمزقة بحبه، ومنافذ كثيرة كالمنافذ الكثيرة التي تفتحت من روحه للإنسانية كلها" . وواضح أن التعبيرية ما تزال تجد في مادة الأرشتكتور (الأبواب، المنافذ الممر النوراني.. إلخ)، وسيلتها في الكشف والإعراب عن المواجد.

لا ريب أن في ما كتب الأستاذ كولن توصيفًا عميقًا، لما ساكن قلبه وروحه وجوارحه من تباريح ثوَّرها فيه الحج وملاقاة الأرض الطاهرة.

إنما المؤكد أن كولن قد نسج وقائع هذه التجربة، وصاغها على هيئة بارعة الإتقان؛ ذلك لأنه ترك العنان لروحه تعرب عن صادق ما عراها بتلقائية ودون تحفظ، كانهمال المطر من السماء، فجاء النص أرشتكتورا حقيقيًّا، مفعمًا بالنضح القلبي، فهو بحق ابتهالية من طراز أصيل.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.