الفصل الثاني: المعمار وشخصية الأستاذ النهضوي

فهرس المقال

المساجد والمقابر والمستوى الحضاري

إنه يعي أن المساجد مثل المدن، تترجم بهيئاتها وبسمْتها مستوى الرقي الذي انتهت إليه مجتمعاتها:

"ممالك الأمم المتقدمة جنات، وجبالها غابات خضراء، ومعابدها كالقصور، بينما مدن الأمم المتأخرة خرائب، وشوارعها مزابل ونفايات، ومعابدها تفوح منها روائح العفونة والوساخة" .

ومن المؤكد أن مساجدنا ومآذننا عكست خصوصياتنا النفسية والمدنية وأطوارنا الحضارية. ذروة الشموخ تجسدت في مآذن الموحدين بالمغرب الإسلامي، وتجسدت أيضًا في مساجد آل عثمان (ولفارس والهند عصرهما الإسلامي الذهبي الذي يرمز له تاج محل).

وعلى صعيد آخر شَكَّلَ القبرُ وهيئة المقابر وجهًا آخر من أوجه السيكولوجية الوجودية لمجتمعاتنا الإسلامية؛ إذ في شكل القبر وسُمكه (أو انطماسه) وفصيلة شواهده، وحظه من الزخرفة أو عدمها، ينعكس جانب من روحية المجتمع، ومزاجه، ومدنيته. تراوح أنماط المقابر عند المسلمين على سُلَّم من التنوع يجعلها على غير طراز واحد، ودون سمت متشاكل؛ وحظوظ المجتمعات ونسب مراتبها في التمدن والتدين تظهر في هيئة قبورها، وتأثيث أضرحتها، وتُرَب ومشاهد رجالاتها، والأمر نفسه يجري على المساجد؛ إذ هي -ومن خلال مبانيها، رحابة أو ضيقًا، بساطة أو فخامة، تجردًا أو تَزيُّنًا- تعكس نفسية جمعية، وطورًا تاريخيًّا يحمل في تفاصيله وخطوطه أصداء من مدنية وعمران الأمة.

وإن شيئًا من هذه الروحية التي أحالت صورة القبر إلى مرفق تأنس له النفس، تعبر عنها بعض كتابات كولن: "القبر ليس إلا صالون انتظار لعالم السعادة" .

الأرشتكتور أضحى عدة لتزيين مراقد وأضرحة السلاطين العثمانيين المجاهدين. تلك الأضرحة التي حرص أصحابها على أن تستظل ببيوت الله. الأمر الذي جعلها تكتسب سمة المشهدية والمزار الذي تستجلي فيه الأجيال التركية دلائل العبرة والفخر، بل لقد اكتست تلك القبور التي جاورت المسجد، طابعًا ثقافيًّا تستشرف منه النفوس معاني أخرى للموت؛ إذ تستشعر للراقدين هناك حضورًا، بل حياة وخلودًا، الأمر الذي ينعكس إيجابًا على تصور الناس لفكرة الموت، لذا فلا غرابة أن نجد تيمة الموت بمعنى الظفر والمجد والحياة والانبعاث، حاضرة بقوة وكثافة في فكر كولن.

أدرك السلاطين أن المساجد وديعة إلهية، وتركة قدسية لا تُورث، فخلّدوا أسماءهم بما بنوا وشادوا من بيوت الله الفخيمة، وآووا إليها بقبورهم، تشفعًا بصوت المئذنة والتكبير، لنيل سعادة الآخرة.

حتى فكرة الموت يعيها كولن في صورة موصولة بالمعمار؛ إذ يراها بابًا ننفذ منه إلى عالم الأبدية والنعيم: "الموت ممر يوصل إلى سعادة الخلد". بل لا يزال يتمثل الموت من خلال حسّ العمارة والتعمير: "الموت بمثابة لقاء من أمكنة وأزمنة تسيح فيها الروح" .

ذلك لأن الإنسان من خلال سانحة الوجود والحياة التي يحياها على هذه البسيطة، إنما يترشح لبلوغ الكمال والاستحقاق الذي يعني الفوز الأبدي: "الموت بالنسبة إلى المؤمن، طريق للتحول إلى الإنسان الكامل" .

كان كولن منذ الصغر يرى أن الموت باب للجواز إلى عالم الحياة والبقاء، وتلك عقيدة إيمانية يتلقنها الناشئ حين يشبّ في بيئة تحيا مُثُل الدين، ولا تنأى عنها في التفاصيل.. وطالما ودَّع باكيًا أحبة فقدهم، ووقف يشيّعهم بالدمع، ولسانه يضرع إلى الله أن يقبض روحه في الحال؛ ليلحق بهم.

لقد انتحب طويلا يوم أن عاد إلى بلدته ليجد الأسرة قد شيعت وفي يوم واحد، كلاً من جده وجدته.. يومها انتحب عاليًا، ودعا الله أن يقبض روحه ليتسنى له أن يلقى أعز مخلوقيْن لديه. لا ريب أن من شأن حادثة وفاتهما معًا في يوم واحد، أن يعزز هذا التمثل الذي كان يحمله في نفسه للموت؛ حيث كان يتصوره سفرًا يمكن للمرء أن يختار من يرافقه فيه. ولقد عاش نفس التجربة يوم وفاة أخيه المسيح؛ إذ بكى وأمّل في سره من الله أن يميته ليلقى أخاه.

لقد ترسخت في نفسه للموت صورة الباب، وعززت ثقافتُه الدينيةُ القرآنية هذا التمثل لديه.. ولا غرو أن نجد هذا المعنى الذي قرَّ في ذهنه عن الموت، يتكرس فلسفة إحيائية سينهجها في حياته الشخصية؛ إذ ما زال يرى أن الجسد هو العائق الذي يحول دون النفاذ إلى رحاب الحرية والكمال الروحيين. فحين يتخلص المرء من تكاليف الجسد ومطالبه التي لا تنتهي، يحطّم عنه قيد البهيمية، ويتمكن من الاجتياز إلى شواطئ الكمال.

ونجد هذا التصور يتكرس لديه أيضًا في عقيدة نهضوية استطاع أن يقيم ركائزها -ولا يزال يرعاها- من خلال حراك الخدمة الذي تنتشر أفواجه اليوم في الآفاق، تصنع الغد. فبالخدمة يتم النفاذ من باب التخلف والانحطاط، إلى أفياء الازدهار والتطور.

ولأجل أن تحيا الروح، لا بد من قتل الجسد (أي قمع شهواته وملذاته المسفة)، ولكي يحيا الإنسان لا بد أن يتكهف ويموت شهواتٍ وأهواءً، أشبه بالبذرة تُلقى في التراب، فتتحلل، قبل أن تأخذ طريقها لتصير شجرة مثقلة بالثمار.

"القبر ليس بئرًا مظلمة، ولا حفرة محاطة بالعدم، ولا غرفة سجن وعزل، بل هو باب مفتوح لعالم مضيء" . "القبر صالون انتظار لعالم السعادة" .

إن تواتر موضوع الموت في كتابات كولن يعبّر -في بعض وجوهه- عن واقع ثقافي قائم في البيئة التركية، يتجاور فيه المسجد والمقبرة الخاصة؛ إذ في جوار كثير من المساجد تقوم تجمعات لقبور تستقر فيها رمم بُناة تلك المساجد (وأحيانًا مع أسرهم..).

إن قبر أبي أيوب الأنصاري -مثلاً- هو مشهد ومزار موصول برحاب مسجد عامر، وتلك حال كثير من الجوامع التاريخية؛ إذ أخذت صيغة مركبات تستجمع -إلى جانب الرحاب- ضريحًا أو أضرحة لها حظّ معنوي أهَّلَها للوجاهة الرمزية لدى الأجيال. ولا ريب أن أثر هذا الائتلاف بين الجامع والقبرية ينطبع في أذهان الزائرين ومرتادي المكان، وينتقش في ضمائرهم. فمن شأن قوة المشاعر التي يعكسها هذا التركيب الذي يجمع بين المقبرة والمسجد، أن يتحول بالروح إلى نقطة ترى في الموت طريقًا إلى الله، ومعنى يكبح النفس ويحملها على أن تتذكر باستمرار مآلها. إن ارتفاق المسجد بالمقبرة يكفل للنفس مساحة من الاعتبار الحي، بل إنه يتيح للقلب أن يقف على حقيقة الوجود الفاني، أجل.. إن البعد الاتعاظي لَجَلِيّ في المشهد.

ولا ريب أن من اختاروا لقبورهم وأضرحتهم أن تجاور المساجدَ، قد توخّوا تحصيل الشفاعة والاحتماء بتلك الجنبات المباركة، ولا بد أنه بسبب ترسُّخ هذا الاعتقاد، أضحت المزاوجة بين المسجد وضريح ظاهرة عمرانية وأرشتكتورالية لا يخطئ المرء مشاهدتها في حواضر تركيا، بل وحواضر المسلمين عامة.

إن مرفق القبريات الملاصقة للمساجد يأخذ بعدًا تصميميًّا في المخطط الأرشتكتوري العام للمسجد، فهو جزء من الصحن، أو امتداد من امتدادات المسجد، فلذلك باتت المثوى مَعْلمًا تشكيليًّا متناغمًا مع المشهد العام.

إن مظهر الأضرحة في جنبات المساجد، قد هيأ لشيوع ثقافة توطين فكرة الموت، وإعطائها صبغة سيكولوجية مُلطِّفة للحدادية التي تميزها في ثقافات الأمم والشعوب. وإن بعض هذا الاستئناس مع الموت الذي تغرسه البيئة الدينية في أرواحنا، تنعكس بعض أصدائه في كتابات الأستاذ كولن.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.