الفصل الثاني: المعمار وشخصية الأستاذ النهضوي

فهرس المقال

المسجد وتأثيره على خطاب كولن

لا بد من التأكيد أن في العملية التشبيهية يتلاقى الحس الذاتي بالمعطى الموضوعي؛ إذ التشبيه وكذا الاستعارة وأنواع المجاز الأخرى (أو فن المماثلة) عامة، إنما هو إلباس الطرف الموضوعي في المعادلة الخطابية، لباسًا من نسيج الملَكة التخييلية للذات، فالمشبه (المعطى الموضوعي) نُقَمِّصه ثوبًا تراه الملَكة التعبيرية يناسبه هو المشبه به (المعطى الذاتي).

يمكن القول: إن عملية التشبيه هي توسيم الشرط الموضوعي بسمة الشرط الذاتي، فيغدو المشبه به -من ثمة- هو حالة النفس، وهو القيمة التعبيرية المشتقة من صميم الأنا، أي من الوجدان.

إن وجدان المخاطِب يتجسد حتمًا في عُدته الخطابية التمثيلية، بل يتجسد في مساحة تعبيرية أرحب، منها اللغة عامة، واللغة الأنثروبولوجية خاصة، ودوال التوصيف، والتعيين الحالي، والإخبار، وما إلى ذلك، مما نسميه الاتْباع الجُملي.

ومثلما ترسم اليد لوحةً تكون خطوطها خلجاتٍ تعكس ما يعتمل في النفس من مشاعر، كذلك يعكس المشبه به البعد النفسي والروحي للذات ويعرب عنها، أحيانًا يكون الإعراب سافرًا، وأحيانًا بين بين، وأحيانًا أخرى مموهًا، لكن التنقيب التحليلي الماهر، يستطيع دائمًا أن يستبين حقيقة النفس في الخطاب التشبيهي والمجازي عامة.

وحين شبّه كولن القبة الخضراء (في الحرم المدني) بالحصان المتوثب، "القبة الخضراء وكأنها جواد أصيل وقف على قائمتيه الخلفيتين" ، فإنه من خلال ذلك التشبيه قد عبّر عن شيء واقعي مشهود (القبة) بشيء ذاتي ذهني (الحصان المتوثب)، وإن سبر المادة التشبيهية يبين-كما أسلفنا- زوايا من صميم شخصية القائل.

القبة في وجدان كولن هي العمامة، والعمامة رمز الإسلام وتاجه، وهي أيضًا حوذة محارب يحمل السيف، وهي مظلة تقيه الحر والمطر، وتكفل له العصمة والمنعة..

يمكن أن نتبين علاقة التجانس بين صورة القبة والفرس المتوثب، وبين هذه الصورة التي يتمثلها كولن للمتنسك، حين يصفه في المشهد التالي: "إحدى ساقيه في أفق اللاهوت والأخرى في قطب الناسوت" .ولا ريب أن كولن يتحدث هنا عن نفسه، لكن بصيغة الغائب كما هو دأْبه.

من جهة أخرى نرى التشبيه يأتي أحيانًا على صورة مموهة، فحين يستدعي كولن في خطابه أزمنة وأمكنة قدسية، فهو يوازن بينها وبين حاضره، ويعقد المقابلة، وفي ذلك تعبير تشبيهي مضمر؛ حيث إنه يرى طهره ونصاعته المتحققة أو المنشودة، إنما تجسدها تلك الأزمنة والأمكنة المطوية، وهو من ثمة يجاهد من أجل أن يستصلح من أوضاع راهنه، ليستلحقها بأزمنة وأمكنة الطهر.

وكذلك حين تدُرُّ روحُه باستطرادات التنويه والتمجيد لرجال من السلف؛ فذلك لأنه يرى ذاته فيهم، فهم قدوته، وهم الطراز الذي يبهره بفذاذته، فأولئك البررة حياله هم المشبّه، وهو المشبه به، والعكس أيضًا، إنهم المشبه وهو المشبه به، فالعلاقة دائرية، وكما أن القبة حصان متوثب، كذلك الحصان المتوثب قبة شامخة الإهاب، وحاصل القيمة بينهما هو صاحب الخطاب الذي يستجمع أو يريد أن يستجمع في شخصه صفة الثبات وصفة الدينامية (الدفاع والهجوم).

والأمر نفسه تعكسه مواقف التنويه بالأبطال والبطولة التي تتكرر في خطاب كولن. فالحديث عن البطولة والفروسية يقتضيه جو الرهان الذي يخوضه؛ إذ إن المشروع الذي تصدى له كولن بذاته مشروع استبسال وبطولة، ثم إن في معاودة الإعراب عن الشغف بالبطولة يحقق الحاجة إلى تعزية النفس عما تجده من انهضام؛ نتيجة افتقادها للاحتياط من الكفاءات الباسلة الجديرة بتحمل مسؤولية التغيير ورفع الضيم.

كما أن الحديث عن البطولة هو -من بعض الوجوه- تلقين النفس والجيل قيم الصبر والتماسك؛ ولأن كولن يدرك أن البطولة الفردية غير ذات جدوى إزاء جسامة المشروع الدعوي، فهو لذلك يتغنى بالبطولة الجماعية، ويتوق إليها، ويتلمس مظاهرها في المظان. إن كلامه عن بطولة الصحابة، بل وعن بطولة الرسول -صلى الله عليه وسلم-، هو توجيهات ذهبية وإيعازات نورانية يبني بها الشخصية الجمعية التي يريدها أن تكون على مستوى همة السلف ورموزه الأبرار.

حين يتردد في الخطاب لفظ "السفوح" "يتنزهون في سفوح الجنة" ، أو حين يتواتر نعت "الأخضر" و"الأزرق" و"اللازرودي" مثلاً، فذلك إنما يجَلِّي شعورًا ذوقيًّا متجذرًا في أغوار النفس، والقراءة المتفحصة وحدها تعطي التفسير المقرِّب لذلك المعطى التعبيري.

لا ريب أن لفظ "السفوح" يعني منحدر الجبل، ومقابله القمة، والسفح موطئ السياحة والتنقل بلا كبير جهد، عكس القمة التي تقتضي المجاهدة والإمعان.. والدلالة النفسية لمرموزية السفح هي الطلاقة والسخاوة، بل السماحة والتمنع، وليس السهولة والتبذل، فكولن ذو عريكة مرمرية كما سنرى، نعومتها لا تعني ليونتها متى تعلق الأمر بالهوية والكرامة الإيمانية.. والقول نفسه توعز به لفظتا اللازورد والأزرق، فهما لونان يتشاكلان صِبْغةً في بعض مستوياتهما، ويحيلان إلى الخلوص والشفافية وقابلية التماهي في أكثر من صورة "الزرقة خضرة في التراث الإسلامي. واللازوردية لون شمولي يمكن أن تتحول إلى سواد، والسواد يطلق على الخضرة، والخضرة من إيعازاتها في خطاب كولن مشهد السفوح"، وواضح أن اصطناع الخطاب لهذين اللونين اصطناعًا انتقائيًّا، يفيد ما للنفس من حاجة إعرابية اقتضت استخدامهما على ذلك النحو الانتقائي المحسوس.

ويمكن القول-من جهة ثانية-: إن الإيعاز الكامن وراء لون الزرقة واللازوردية هو ترجمة "حالية" اعتبارًا لما يميز صميم مسْحة هذا اللون من نبل وأصالة، إنها صفة السماء، والسماء هو مرفق وجودي أولي؛ إذ الكائنات كلها تفتح عينيها على القبة الزرقاء، فلذا كانت الزرقة تجسد في الوجدان الجمعي-أي في اللاشعور الإنساني- المعنى الأولي، البدئي، الرَّحِمي (العتمة والدفء والحياة)، ولا يستشعر الإنسان -منذ النعومة- معنى الجلال والنبل إلا في مشهد السماء وهي تحيط بالكون، وتحضن النظر أنى لاح.

لا ريب أن السماء مثل الماء تقريبًا، وكلاهما ذو غلالة لونية لازوردية، قد جُعِلا مُكْتَنَفًا للكون والبسيطة، فهما منتهى الأفق، وغاية مبلغ المدى التخيلي المجهول، لذلك يخشاهما الإنسان ويجلّهما، ويُصدم بوَطادتهما، ويتعشق سحنتهما المتلونة، الصارخة، التي لا تستمر على حال.

الماء والسماء كلاهما رمز للمطلق، والمطلق مناط همة الصالحين.

من جهة ثالثة نجد كولن يستظهر قانون التناسب الذي يميز مقومات نفس الإنسان ومنازعها. فعوالم النفس بدورها تغدو مجال استقراء كولن، يتبين فيها الطبيعة التساوقية التي تضبط الفكر وتربطه بالسلوك؛ ذلك لأن إدراك كولن للمواقف البشرية يتم أيضًا من زاوية نظر الضبط التناظري والقياس البُعدي (المسافة) والعلاقة السببية بين الأثر وعلته التي اعتاد أن يراها تشرط الوقائع.

يقول كولن: "هناك علاقة تساند وتساوق بين عمل الفرد وسلوكه وبين حياته الجوانية. إن هذا الأسلوب من النظر إلى الأشياء إنما يترجم النزوع الترتيبي والحدس التنظيمي والرؤية التعليلية التي تميز أهل القريحة، فهم يستوعبون المشهد -أي مشهد- من خلال نقاط الترابط التي تلحم بين إحداثياته، فهذا التساوق الذي يحدسونه بين الظاهر والباطن، السبب والنتيجة، الخط وامتداده، هو قانون مطرد اعتادت ملكات التجلية والتمييز أن تستبينه في الظواهر والأشياء والحِراكات، فرؤيتهم فُطرت على أن تستشف في الظاهرة روحها، وفي البنية تصميميها، وفي المجسم شكله ومعماره، وفي السطح زوايا ارتكازه وأرشتيكتوريته".

إن هذا الوازع الأرشتكتوري يكاد أن يشكل مظهر ثبات في الرؤية الوجدانية لكولن، فمُوَلِّدُات التعبير والبلاغة والتمثل والإدراك والاستقراء نزعت بنسبة استخدامية ملموسة نحو حقل العمارة، تستلهمه، وتصطنعه مادة إعرابية وبثية، لذا رأينا قاموسًا مهمًّا يخص قطاع المعمار والتخطيط يروج في كتابات كولن بكيفية متواترة ومفتاحية لا غبار عليها. ويمكن أن نسوق في هذا الصدد التراكيب التالية شاهدًا على هذا الحضور الأرشتكتوري الذي يتميز به خطاب كولن، استخرجناها، عرضًا من بعض سياقات كتاب "ترانيم روح وأشجان قلب":

البناء القلبي والرحابة الروحية للفرد -القلب عش وخيمة- الصبر ممر ضيق، أنت يا من يبني قصورًا من زجاج وتغرق فيها، تراعي حق الترتيب والتسلسل الموجود بين الحوادث والأشياء، تقوم هذه النسائم، لتوصلنا من خلال المنافذ والممرات الخاصة، في قلوبنا، مناسبة العيد سانحة فذة تجمعنا روحيًّا ومعنويًّا مع طوابير الأجداد، فكأننا نجلس إليهم ونقبل أيديهم (واضح أن الصورة هنا تترسم الامتداد الخطي الزمني)، وهو ما يعبر عنه أيضًا بقوله: "طاوين الزمان الذي نعيشه بأزمنة بعضها في بعض" ؛ حيث جاء التكثيف الزمني يقوي البعد الثالث الذي هو المساحة الفضائية، التجويفية في المعمار. ونجده يعطي الصوت صبغة تفويفية (باروكية) إذ يُلبِس الصوت هوية: نغمة الأذان وصوته.. هو لسان هذه الأمة، فكل من يعش في خيال البرج العاجي لقلبه، سواحل الإيمان في قلوبنا، هذا المكان في الدنيا (الكعبة) امتداد لمكان من وراء الفضاء صُمم بيد القدرة منذ الأزل.

تخطى كولن إلى المسجد بنزوع قد لا يكون واضحًا بالنسبة إليه في تلك المرحلة من فتوَّته، إنما الثابت أن ذلك الترابط مع فضاء الحرم، حقّق له التواصل مع وازع الاشتهاء الجنيني الذي فُطرت عليه النفس، فكل مخلوق -لاسيما الإنسان- يحمل في كيانه جاذبية وحنينًا نحو الجنينية (المرحلة الرحمية)، ولا يزال الآدمي مشدودًا إليها، يعيشها دون شعور في مساحة معتبرة من حياته الغريزية، يعيشها في استعذاب الغفوة، واشتهاء الاسترخاء، وفي وضع التكمّش، وأحوال أخرى في حميمياته؛ إذ يستلذها الإنسان على نحو غامض بداعي الحنين إلى لذة الدفء والاحتماء والاستكفاء، فلا غرابة أن يكون المسجد رحمًا روحيًّا لكولن، يكاد يجد في رحابه وتحت سقفه، كل الرعاية الجنينية الأولى.

لقد عمل النظام الحياتي (الحرمي) على أن يقوي فيه روح التفلت من ذاته الخام. لقد كانت المرحلة المسجدية بالنسبة إليه، معْبرًا بين طوري التلقي والعطاء. بل لقد كانت المرحلة المسجدية جسرًا تمكن كولن من خلاله أن يضع قدمه وبصورة لا رجعة فيها، على سكة التبتل والانخراط السلوكي، أو لنقل وضعها على درب الإصلاح الفاعل، والنهج المغيّر لوجه الحياة التركية جذريًّا.

خلال تلك المرحلة قرر كولن أن يصرف النظر وبصورة قطعية، عن فكرة التأهل والابتناء بالزوج، بعد أن اختار الرهان على البناء الملي. لقد صمّم على التوجه بكامل قواه وقدراته إلى الله. ومنذئذ اصطبغت حياته في سائر منعطفاتها بصبغة الاستغراق الذي تولده في النفس وطأة التقوى والتقشف التنسكي؛ فالشجرة المجاورة للنهر تزدهي في البذخ، وترفُلُ في الميوعة، عكس الشجرة المتفردة في الفيافي، فإنها تعيش التصلب والمجالدة والإمعان في قهر أسباب الفناء.

شحنت فيه الحياة المسجدية روح التركيز، ومعاينة الأشياء من خلال حسّ بنائي، تعبيري؛ إذ لبثت حواسه تقرأ الألوان والتغصينات والزخارف والحفريات وغيرها من أشكال زينة المعمار المسجدي في ترابطها وتناسقها، وكل ذلك كان يروّض النفس والروح على أن تلقط سير الخيوط الواصلة بخفاء بين الإحداثيات.

لقد أضحى كولن ينظر إلى الأشياء والمعاني من خلال مجازية خطاب يشخصن الأفكار، ويجليها في قوالب عينية. "التلال الزمردية" هو عنوان كتاب، فحواه اقتراب روحي وروحاني، أي خوض في تحليل عالم الروح، وإن الدلالة التعيينية التي تكشف عنها صيغته، هي دلالة تصويرية مستوحاة من الطبيعة، فـ"التلال" عنصر من الطبيعة، و"الزمرد" حجر كريم فذ، لا يكاد يُعرَف إلا بالاسم.

وكذلك ينبغي أن تكون الدلالة المتعلقة بالبرزخ وعالم الماوراء؛ إذ إن تجارب الروح تتأبى عن التعيين، ولا يمكن إماطة اللثام عليها إلا مجازًا، من هنا يأتي المجاز الصوفي نفسه بعيد المعقولية، فهو من قبيل بعض تعيينات القرآن الماورائية، وإن الصورة القرآنية •طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ§(الصافات:65) ذاتها، هي صفة غير معقولة لمضمون غير مدرك حسيًّا. ذلك لأن نعت اللامدرك باللامدرك ينتج عنه تعيين لا مدرك، ومع ذلك يغدو الأمر سائغًا، بأن يفترض الذهن الفردي مدلولية تناسب مداركه؛ لأن القضية ما ورائية.

لقد تحدث العرفاني ابن عربي عن الخيال المتصل والخيال المنفصل، وأوضح مستوياتهما في التجلية. وإذا كان عالم الشعر والفن هو مجال التخيل الحسي بامتياز، فالمؤكد أن المقاربات الفكرية حين تتطارح المجردات، وتطرق مجال التأسيس النظري المحض، فلا مناص من أن تتمرس بمطارحاتها ضمن مجال الذهني واللامحسوس، وعندئذ تتوقف الإفصاحية على مدى ما لها من نفاذ روحي، ومن مهارة على استغلال فن المجاز، ومن قدرة على التوصيل.

وإلى جانب نزوع التعيين بالحسي، نرى لدى كولن بُعدًا إعرابيًّا رياضيًّا أيضًا؛ ذلك لأن المعاني التي يطرقها ويتداولها نابعة من حياة التأسي والدقة والإنهاك التي يخوضها، لذا نراه يلتقط المعاني ضمن فكر المساحة والكيل التجسيمي، تحيل عليه معجمية جلية تدور على لسانه وتجري في خطابه وتلون مواجده، من ذلك مثلاً دالّ الدائرة، الأفق، الانحناء، النقطة، التوازن.

وإلى ذلك نرى الواجهة الفيزيكية والأيكولوجية (البيئية ولوحاتها العذبة)، تحضر في خطاب كولن بصورة إعرابية قوية.

ولا يمكن أن نتغاضى عن مدى تأثير جو المحراب في وجدان كولن. وإن من شأن الإثابة إلى الحرم -حين تأخذ صورة إقامة شبه دائمة- أن تمنح النفسَ قدرةً تأملية استغراقية تفرغية (وتفريغية) يستشعرها -في العادة، وعلى نحو أو آخر- العامة من رواد بيوت الله، فكيف لا يجدها في نفسه شاب انشدَّ إلى الإيمان والروحانية منذ النعومة، (بدأ الصلاة دون انقطاع في الخامسة). إن سلخه للأيام والشهور، بل والسنين، وهو مختلٍ، وحيد، تظلله قبة المسجد، وتكنفه سواريه، وتناجيه جدارياته وما عليها من خطوط ورسوم وتشكيلات وتزيينات.. لا بد وأن يترك ذلك كله في الوجدان بصمات ينطبع بها العقل، وتتشكل الملكات، وتبرعم القابليات، فينشأ من ثمة هذا الوازع التعبيري الأرشتكتوري الذي نلمسه يبطن كتابات كولن.

الاستغراق كما هو معروف قد يلابس الروح حتى وهي في غمرة من أجواء الإثارة والتشارك؛ ذلك لأن للروح عالمها الخاص، فهي تخلق من انكفائها على الذات رباطًا تنزله، أو تهيئ معارج تنفذ بها إلى السماء. ليست الخلوة انقطاعًا وتفرغًا وتحررًا من وطأة العلاقات والتواصل فحسب، بل هي كيان قائم، وبيت معمور، وقلعة حامية، لذا كانت لذة الإنسان الناتجة عن جو التبتل والتأمل والذكر، لذة وافرة، فجو الوحدة يمثل بالنسبة إليه صرحًا مشيدًا، وخيمة وطيدة تكنفه، وتضمه إليها في حب. وإن وحدة العاكف، هي حضن الأمومة الذي لا تشبع منه نفس.

كُولن يشقق من حس المعمار مواصفات مرتبطة بالمساحة، والحجم: "لنا مفهوم إحقاق الحق، يتفق مع فكرنا الذاتي الرحبّ"، وأخرى موصولة بالبعد المكاني الثالث الذي يتجلى في جمهرة من الدوال، منها لفظ "السامق" الذي من مرادفاته السمك، والعلو، والارتفاع، والشهوق.. وجميعها تجد مواقعها في خطاب كُولن، من ذلك مثلاً قوله: "رجل الفكر نموذج للشعور بالمسؤولية المجتمعية وهدفه رضا الله، يضحي في سبيل فكره بالنفس والحبيب، وهو في سلوكه طريق السامقين مشدود شدًّا وثيقًا بحسابات الحق" .

الإسلام يضع سِمَتَهُ على الأفذاذ، فينقلبون شخصية واحدة، أشبه بتشاكل الأقواس والسواري، وكل نقوش الزينة المسجدية؛ ذلك لأنهم يتغذون من نفس المصدر، ويردون ذات المورد. ولقد عبّر كولن عن ذلك التواصل العضوي بين الأجيال بما أسماه (قانون التوارث) "الذي غدا بموجبه أبو بكر هو عمر بن عبد العزيز، وصار عليّ روح الغازي، وأبطال بدر، هم أبطال ملازكرد" ، ولا ريب أن في صورة التشاكل التي قرأ بها كولن الأجيال والسلالة المحمدية، من حيث تقاسم أفرادها ورموزها لذات الصبغة القرآنية التي طبعتهم، وجعلتهم يصيرون طرازًا واحدًا من حيث العظمة والطهر، إن هذه الصورة لتوعز بتلك الطبيعة التساوقية التي طالما عهدتها حواسه في حِلية المسجد وأرشتكتوره، والتي تضفي على مجاميع وسلاسل الزينة النقشية والزخرفية سَمْتَها المشترك، وختمها الموحَّد.

من جهة أخرى نرا كُولن وهو يعبر عن مظاهر الاستيلاب الثقافي التي تعم مجتمعاتنا، يسترفد معجم المعمار أيضًا فيستخدم لفظ "السواتر": "والواقع أن مجتمعنا يتحمل في مبناه أكثر من فكر وفهم وفلسفة معًا، لذلك نرى في طريق مغامرتنا الوطنية الخاصة، آثارًا موضعية لفرنسا، وتوقفًا عند الفهوم الألمانية، ومجاراة لنمط الفكر الإنكليزي أحيانًا، واليوم نجد نشوة مع الحرية الأمريكية، وفي كل الأحوال نضغط على السواتر الجانبية لطريقنا الرئيس" .

إنها دعوة إلى إزالة الأحجبة عن عيوننا، لكي نتمكن من الرؤية الفسيحة، فلا نسير راسفين في عُقَدٍ تشرطنا بها ثقافات الآخر ومدنيته المتأزمة، وروح الاستعلاء والاستعباد التي تحكمها.

كُولن يحلل نفسية المؤمنين العاديين، ويعزو متانة سلوكهم إلى ارتباطهم بالجذور العميقة من المعاني. فهم يجسدون التواضع والعزة والإخلاص، وأرواحهم ممتزجة بالحزن والبهجة يمثلون نموذجًا غير موجود في الأمم الأخرى: "في مظهرهم العام ترى.. صفات الأرواح التي نضجت بالقرآن والمتميزة بالحزن والوقار" .

إنه ينوّه باستقامة أهل الإيمان، لاسيما تلك الأوساط العريضة من الشعب التي نشأت ولا حظَّ لها من العلم يرقيها، لكنها ارتقت بما لها من شمائل الأصالة والفطرة، وما انعكس عليها من آداب العبادة، ومن الاحتكاك بمؤسسات الدين. وإن أظهر ما تظهر عليهم تلك الأخلاق الجادة، النبيلة، في المواسم، لاسيما أيام الأعياد، وهو ما يسجله لهم كولن بقوله: "الجدية الساحرة تميز المؤمنين.. في أعيادهم، هؤلاء الناس هم الذين لم يتيسر لهم التعلم والقراءة، ولم يتلقوا تثقيفًا، ولكن ترى عليهم آثارًا غنية من مكتسبات التكايا والزوايا والمدارس الدينية الأهلية والمدارس الرسمية، ويملكون غنًى روحيًّا على الدوام ويصرفون على ضوئه.. حتى كأنهم ليسوا أناسًا عاديين، بل موازين دقيقة تزن كل قيم تاريخنا المجيد" . "نظرتهم جدية في كل شيء، وبنية تفكيرهم متينة في كل مسألة" .

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.