الفصل الثاني: المعمار وشخصية الأستاذ النهضوي

فهرس المقال

ماهية المعمار وعلاقته بالهوية

المعمار العثماني أبرزُ حافظ للهوية التركية، ومعرِّف بها، ومُوصل لها: "في هذا البلد الذي أقفرت أرضُه، وأظلمت سماؤه، لا تزال هناك معابد يؤمها الفقراء والمساكين" .

ظل المعمار العثماني يمثل الشاهد الأثري الأبرز، والأقدر على تعريف الآخر بالهوية التركية، وتذكيرهم بالأصل؛ إذ الثابت أن أهم واجهة إشهار ثقافي وسياحي تميز تركيا المعاصرة هو تراثها المعماري، وتفرد أرشتكتور جوامعها ومبانيها الإسلامية، فهذا الوجه الجمالي العريق، هو مبعث الرحلة السياحية والاستطلاعية التي تشد ملايين السياح إلى تركيا موسميًّا؛ إذ من خلال معالم هذا التراث، تترسخ صورة الشخصية التركية، ويتجلى ماضيها الفخيم، ويلوح فجر غدها العظيم.

التجاذب بين كولن وبين فن المعمار أتى من طبيعة تشاكلية تجمعهما؛ إذ كلاهما جسَّد روحية صمودية تقاوم الردة وتدفع التخنيع. كما أن الزيغ التغريبي لم يفلح في القضاء على معالم الحضارة الإسلامية التي مثّلتها تلك الأرضية العريضة من القلاع الروحية: بيوت الله المعظمة.

والعجز نفسه سجلته آلات الحصد المستبد التي استهدفت الأولياء ورجال الله، ومنهم كولن.

في وعي كولن تتجذر أصول الإيمان ومصادره (قرآن، سنة، سيرة السلف الصالح). ومن رحاب قلبه تشعّ مشاعر الاعتزاز والامتنان المتوهجة بمساحات النور التي حققها التاريخ المجيد للإسلام وضِمْنها مآثر آل عثمان الجهادية والحضارية، وإلى ذلك يقبع في ركن من بؤرة الوعي ركام من الجروح والحسرات النارية، مبعثُهُ ما لحق الأمة ودينها من دمار.

حيال استمرار هذه الجروح في النزف، لا يملك كولن إلا أن يستمر متشبثًا برمزية ذلك المجد الذي كانت المؤامرات الانحلالية تعمل على اجتثاثه. فالتعلق والاعتزاز بجمال المسجد العثماني الذي لا يفتأ كولن يعرب عنه، كان يمثل وجهًا من وجوه المقاومة، ورد الفعل التي يتصدى بها لأعمال التخريب.

لم يكن المسجد يمثل بالنسبة لكولن حالة من أرشتكتور يسحر بأناقته، ويجلب السواح، وإنما كان يمثل الواجهة الحافلة بالمعاني والدلالات التي من شأنها أن تضمن بقاء الجماهير مرتبطة بماضيها، من هنا كان كل ذلك الاحتضان للمسجد، وكل ذلك الانحياز إليه.

لقد احتمى المسجد في تركيا بأجنحة من جماليته الخارقة، فجماليته الجليلة هي التي سوّغت للمتغرّبين الإبقاء عليه، لقد قرأوا في الفخامة المعمارية البعد الترويجي، الدنيوي، الذي يخدم سياسة التفسخ التي ساروا عليها، فعملوا من ثمة على تدجين المنابر، وإحناء الصوامع، فيما ظلت غزليات كولن وشغفه بمفاتن السليمية، وطُوبْ قَابُو، وأياصوفيا، وغيرها، أورادًا بيداغوجية، إيقاظية، تحرّض الأتراك على التعلق بهويتهم؛ إذ كان يرى في تلك المفاتن اللسان القوي المعبر عن رسوخ الإسلام في تلك الديار، على الرغم مما كانت يد الشر تفعله بميراث آل عثمان، فمضى يتغنى بها، كما يتغنى فارس الطروبادور بعشيقاته، ويرابط على عتبة أبوابهن.

بل إن توظيف الخطاب التنويهي بجلال التراث الأرشتكتوري، ورفع العقيرة لِلَفْتِ الرأي العام التركي إليه، يندرج في صميم الروحية العقدية، إنه ضرب من الذكر؛ لأن الغاية هي لحم الضمائر بالإسلام وبتاريخ الأسلاف المجاهدين، وهي غاية تتصدى لمقاصد المتغربين وتعاكسها.

لقد بقيت المساجد (بأرشتكتورها البهي) تمثل المظهر العلني الوحيد تقريبًا، الذي ثَبَتَ يقارع برامج الاستئصال، لم يكن للمعبد من يحرسه إلا جدارته المعمارية الباهرة. في صمود المسجد العثماني، ودفاعه عن حرمته بسلاحه الذاتي، تكرار لمعجزة الطير الأبابيل، لقد تأكد الأخيار مرة ثانية، أن للبيت ربًّا يحميه.

رأى كولن أن القيمة المادية (الأرشتكتورية) حين عَمَّرت الحيز والمكان، كانت الأنجع في المقاومة، والأقدر على الثبات، لذا آمن بأن الشرط المادي في مجالات الحضارة، قد يغدو هو البعد الضامن لديمومة القيم الروحية، وصونها من العدوان.

والعكس صحيح؛ إذ حين يأتي الفناء على المآثر المادية، ويحال بينها وبين وظيفتها ورسالتها، تنبعث الجذوة من الرماد؛ لأن الروح أبدًا حية، ومع جهد المجاهدين، لا تلبث الحياة أن تسري في كامل الجسد.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.