الفصل الثاني: المعمار وشخصية الأستاذ النهضوي

فهرس المقال

أرشتكتورية الصلاة

"أما نحن، فعند وقوفنا لكل صلاة نحس كأننا نرتشف صفو جيل نوراني وصَمْتَه.. أما أرواحنا فتنسلخ من الجو القاسي للجسد، وتنفعل مرة أخرى بآمال الوصال" .

في الصلاة يتجاوز الإنسان مشاعر الجسد.. وبما أنه كفَّ جسده حتى عن اللذة الحلال (الزواج)، فيمكن القول أنه عاش في صلاة مسترسلة.

في تتبع كولن لسرد وقائع العبادات، نحس كأنه يصنع مدونة بمذكراته، وبالحال والسيرة التي لابسته وهو يؤدي تلك العبادات. إنه يقتطع من تجربته الروحية قطائع يعرضها في هذا القالب الموضوعي، المتجرد، الذي رغم تجرده جاء شفافًا، يعكس الطابع الشخصي والأدائي، والتفاعل الروحي مع الفرائض والمناسك، فكتاب "ترانيم روح وأشجان قلب" -من ثمة- هو مدونة شخصية تكشف عن الجانب التعبدي للأستاذ كولن، وتعطي صورة لحياته التبتلية، دون أن يكون القصد هو إظهار ذلك، بل القصد الخفي إنما كان الإيعاز للمسلم بالكيفية التطبيقية المثالية لتلك الشعائر، فالمغزى الذي يستشفه القارئ هو مغزى تبصيري.

الصلاة تمرس روحي يقوم على دعائم من الأداء والإقامة، فهي لذلك، لا تحتمل أدنى خلل. والصلاة في مستواها الخارجي هي أرشتكتور هيكلي؛ حيث يتموضع الجسد في هيئات تعكس الاتساق بين الروح والجسد، بين الحركات المرئية والنبضات الكامنة، إن صفة "القيام" التي تسند إلى الصلاة (الصلاة القائمة)، تشدد على وجوب إمضاء الحركات الجسدية والتثنيات العضوية إلى منتهاها الخشوعي، وغايتها التبتلية.

وعندما يتحدث كولن عن الصلاة، فإن حديثه لا يخلو من إيعازات أرشتكتورية يسترفدها خطابه، ويعبر من خلالها عن بعض مشاعره. يقول متحدثًا عن نفسه، كما ينبغي أن نفهم: "إذا أدى الإنسان صلاته بمعناها الكامل تتوسع عنده فترات النور، وتقل عنده فترات الظلام والعتمة، وتنمو عنده حالات البسط وتكاد تمحى عنده حالات القبض، تضيق في عالمه الداخلي المنافذ المفتوحة للنفس وللشيطان، وتنفتح الأبواب الروحانية والملائكية على مصارعها".

إن السياق قد حمل معاني موصولة بالأرشتكتور (توسع فترات النور)، (تقل فترات الظلام والعتمة)، (المنافذ)، (الأبواب).

إن هذا الاسترفاد لحقل المعمار، يترجم سيرة طويلة كانت الصلاة هي الورد الذي يطيب للروح أن تؤديه في خلواتها وجلواتها، داخل رحاب المسجد، مقر إقامته.

إن الصلاة في اعتقاد كولن، هي شعيرة الغياب الحق، والانخطاف الصدق. ولقد اعترف أنه زهد في صلاته على إثر أن صادف أحد تلاميذ النورسي يؤدي صلاته بحالة من الانخطاف أدهشته، فمنذئذ تعلَّم كيف تكون تأدية الصلاة (انظروا الصدق). ولقد رأيناه يستفيض في الحديث عن الصلاة، ويكشف عن عِظم مقامها، وأحوال النفس ساعة تأديتها. فالصلاة التامة هي التي "تحرك القلب، وتغذي المشاعر، وتهز الإحساس إلى حد الارتجاف، أي إن الصلاة الواردة في الآية"إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر"(العنكبوت:45) هي الصلاة بمعناها الكامل، أما الذين لا يبلغون في صلاتهم هذا الأفق، فلا مناص من وقوعهم في الأخطاء" .

بهذا التفاني في الأداء تنشأ في النفس رابطة الحب للشعيرة، فتصير ضربًا من السياحة التي تترَوَّح فيها النفسُ وتجدد الانتعاشة. وكانت الصلاة عند الرسول -صلى الله عليه وسلم- استراحة يترقبها بشوق ولذة، فالانتصابة، والتلاوة، والإبحار وراء المعاني، وتنويع الوضعيات في الوقفة، يجعل من الصلاة وردًا، وسانحة تتعطش لورودها الروح، ومثلما يقوم أحدنا لصلاته متكاسلاً، متعجلاً الفراغ منها، ليعود إلى حال خموله، ترى أهل الله، يندمجون فيها قبل التكبيرة، ولا ينسلخ عنهم ذلك التخدر العجيب الذي يتلبسهم إلا إذا غادروا مُصلاَّهم. أرأيت الصديقين كيف يماطلون في الانفكاك عن المصلى، أرأيت كيف يطيلون المعقبات، وكيف تستغرقهم طيلة تلك الغيبة، سكينة عميقة هي في الواقع سكرة أو انفكاك عن الوجود الحسي بالروح.

لبعض هذه الأحوال، طفق كولن يصف الصلاة، ويكشف عن لواعجها "إن أرباب القلوب يستطيعون السياحة بين عالم الأزل والأبد عدة مرات في اليوم الواحد، ويمررون الماضي والمستقبل معًا من منشور الفكر بوتائر متعاقبة، ويتأملون الشرائط الذهبية للزمن الماضي مع التلال الزمردية الخضراء للمستقبل المحفوف بالأمل في آنٍ واحد". ويضيف: إن "الحركات السرية العائدة للصلاة التي تغذي أفكارنا وأخيلتنا كل يوم عدة مرات، تجد على الدوام طرقًا ومنافذ وراء أفق هذا العالم لتنقلنا إليها، وهي تهمس في قلوبنا بأبيات الشاعر نسيمي:

مكاني أصبح لا مكانًا انقلب كياني كله روحًا

وتجلى عندي نظر الحق عيانًا فغبت عن نفسي من لذة الوصال

من مقام المحاسبة والخوف من مغبة التقصير؛ حيث يلازم القول لنفسه على الدوام: "وماذا لو رُميت صلاتي بوجهي كخرق بالية" ، يتحول العبد الصالح إلى عاشق يهبّ كليته للفرض، حتى لا يستبقي منه إلا ما يقتضيه الوعي بحق الله.

بهذه العشقية تنفسح مساحة التنفل، ويتسع نطاقها ليلاً ونهارًا؛ ذلك لأن النفس تكتسب بالمداومة والتجند الطبيعة الثانية التي تحدث عنها كولن، والتي في ضوئها يغدو ما يراه الناس العاديون مشقة في الواجبات الشرعية، محض شهد مصفى، وقدح معلى، يُمنَح لظامئ أوهنه السير في الفلاة.

يقرأ كُولن شعيرة الصلاة، ويتمثل كيفية أدائها، بعين المعماري؛ إذ تكررت مرارًا في خطابه الإحالة إلى حقل البناء، ومن ثمة، تردد لفظ الباب والنافذة والضيق والسعة وما شاكلها.

الصلاة شعيرة تقوم على الأناة في الحركة، والسكون في الفعل، ولا تكتمل شروطها إلا إذا تَقمَّص المصلي وهو يؤديها، هيئات من السكينة في حال الانحناء والانتصاب، قعودًا ووقوفًا، تجسد الاتساق الخشوعي بين الروح والجسد، مع ما يمثل ذلك من وقار، هو عنوان على جلال الإسلام، وما أرساه من شعائر وفروض تعتلي بمستوى الآدمية.

فشعيرة الصلاة، بقدر ما حدَّتْ من غفلة النفس وكفَّت من استنامتها لدواعي الغرور والرعونة والاعتداد، بقدر ما هيأت للروح من أحوال التسامي المعنوي، ما من شأنه أن يكمل من نقصها، ويكثر من لطائفها. ولا يكون المسلم أدهش في عبادته، وألفت إلى الانتباه، إلا عندما ينهض لأداء الصلاة، فردًا أو جماعة؛ إذ يستجمع -أو ينبغي أن يستجمع- في موقف الأداء ذاك، إلى الخشوع والمحو، الاتزانَ وكافة مظاهر خلوص العبودية.

وسواء أأدى المسلم صلاته تحت قبة السماء، أو في صحن المسجد تظله أقواس المبنى، فإنه في الحالين يناجي الله ليس فقط بالروح والقلب، ولكن بالجسد والكيان الحسي كذلك. الأمر الذي يجعل الصلاة هي شعيرة التواصل العلوي بامتياز؛ لأنها تتجسد من خلال رباط خطابي حسي بـ"الشكل"، ورباط شعوري وجداني بـ"المضمون". فهي أكثر الشعائر تشخيصية، بل إنها الشعيرة الوحيدة التي تتأدى بواسطة الكيان الجسدي، بحيث يتشكل القوام الجسدي أثناءها تشكيلات هي تنويع في الخطوط والهيئات، من الاستدارة، إلى الاستقامة، إلى الامتداد، إلى التمركز، والتحجم، والتجمع، إلى ما إلى ذلك من كيفيات حركية تَتمُّ بها هذه الشعيرة التي اقتضى الدين الحنيف فيها على المسلم أن يلازم من خلالها عملية تطويع الجسد، وترويضه بلا انقطاع على عبادة لله، تلك العبادة التي تُكسِب الروحَ القدرةَ على التحرر من كافة أصناف الضلالة والترغيم.

ولا ريب أن في تسمية الصلاة بـ"عمود الدين"، إيعازًا بالطابع الترجيحي لها، وبالأولوية؛ وذلك لما لها من تأثير على النفس، وقوة على المواجد، متى كان حاديها الإيمان العميق؛ إذ في أثناء تأدية الصلاة تتم الرحلة المعراجية التي يباشرها المسلم في كل موقف صلاة، رحلة تقلع بالروح كما بالجسد، نحو الآفاق التي هيأها الباري لذوي التوق والشوق، الذين يحسون الصلاة كالطائف في المعراج؛ بحيث يستروحون نسائم الجلال المطلق، لدى كل ميقات صلاة.

ثم إن في استعارة صورة "العمود" وصفًا لمنزلة الصلاة بين شعائر الإسلام، إيحاءً باكتمال صبغة الجلال والجمال لهذه الفريضة؛ إذ من الثابت أن الاستطالة والبسطة في الشيء تُعدُّ من مقومات الجمال، وإن في قول النبي: «وجُعلت قرّة عيني في الصّلاة» أو ما في معناه، إعرابًا صريحًا عن العشق والتشوق. فلا غرابة أن يؤثر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- شدة تولهه بالصلاة، وامتلاء الجو الذي يؤدي فيه الصلاة مفردًا أو إمامًا للصحابة، بأعباق عارمة من السكينة، وحضور القلب والانخراط.. ولقد كانت تجلية الجسد، وإظهار قوته، من أسلحة التأثير التي استخدمها الرسول -صلى الله عليه وسلم- في أدق المواقف.

ولنتذكر في هذا الصدد تعليماته -صلى الله عليه وسلم- لصحابته الكرام، يوم دخل مكة معتمرًا، عليه ثياب الإحرام، وهو يسير بالأصحاب تحت أنظار المشركين. لقد أوصاهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ذلك الموقف أن يستظهروا لأعدائهم من أحوال القوة الجسدية كل ما يستطيعون إظهاره. لقد كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يدرك يومها ما للمظهر الجسدي وللأهبة من تأثير في إشاعة الرهبة وفرض الاحترام.

ومن المؤكد أن الأشكال التعبدية التي ظلت الأمم تختلقها لمُؤَلَّهَاتها الصنمية، وتتقرب بها إلى أربابها المزعومة، قد ظلت تعيش بها في حالة من الانحباس الروحي، رغم مظاهر سطحية من التنفيس والحماية التي كانت تتوهمها وهي في حضرة معبوداتها؛ لأن من طبيعة أرباب الوهم، ومحسوسيتهم، ومشهوديتهم، وتحجمهم، وتعينهم أن يعيقوا الروح عن أن تلمس جلال المطلق، ورحابة اللانهاية.

فحتى المجتمعات التي رمزت لآلهتها بافتراضات شبه غيبية (النور الظلمة، القوى الخفية، الضارة والنافعة)، زاغت عن الطريق؛ لأن روح المتعبد ظلت رهينة الحس، ومشروطة في تعاملها مع آلهتها بمنطق التشخيص، والتعيين التمثيلي، والتصور الحسي، المغلق، الذي لا يعبّر إلا عن الماهيات المادية؛ (لأنها بطبيعتها مجسمة أي محدودة)، عكس الإسلام الذي نسف معتقد التجسيدية"لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ"(الشورى:11)، وعلَّم العقل البشري كيف يرى الله في المطلق، وفي الكلية، واللانهائي"رَبِّ الْعَالَمِينَ"(الفاتحة:2)،"هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ"(الحديد:3)، "فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ" (البقرة:115).

من هنا كانت الصلاة (التامة) شعيرة يَعمُر فيها الجسد مساحات العمق الوجداني، فيُنشئُ -من ثمة- هيئة من الخطوط والتقاطعات، فيها انحناء السماء، وسمك الأثير، واستدارة البسيطة، وانتصاب شرفات الأفق المحيط بالكون. فالجسد من خلال شعيرة الصلاة (القائمة) يتحول إلى أرشتكتور للتواصل؛ إذ لا يفتأ يبدّل في خطوطه وأهبته، ويأخذ من الأشكال والهيئات، ما يعكس مظاهر من صميم تعابير العبودية في حضرة الخالق. في أثناء تأدية الصلاة، يتماهى الكيان الجسدي في أكثر الصور تعبيرًا عن الاستكانة والاستسلام أمام الله.

كل ميقات صلاة هو موقف للتشكل والمحايثة الحنينية التي تهفو فيها الروح إلى عالم الغيب. الصلاة موت جليل، وحشر بديع، وتصاميم تتشكل أثناءها البواطن والظواهر عبر أبجدية مد جسور التواصل والقرب مع الخالق. وكل ذلك طفق كولن يؤكده ويقرره كلما تطرق لموضوع الصلاة؛ إذ لبث يقرأ أطوار النجوى والامّحاء التي تحصل للفرد أثناء الصلاة، قراءة عشقية، حالية، تشي بما كانت روحه تَسْبَح فيه من تلاطمات المكابدة (الخشوع) وإنهاكات العروج (استشراف الأفق لسدرة المنتهى). فالصلاة شعيرة تنحسر بها دائرة التعتم، وتنبسط مساحة النور، الصلاة تُجدِّد من أرشتكتور النفس، وتُفضِي بالروح إلى أفق سامق.

  • تم الإنشاء في
جميع الحقوق محفوظة موقع فتح الله كولن © 2024.
fgulen.com، هو الموقع الرسمي للأستاذ فتح الله كولن.